ونهض حسين يغالب تعبه وإعياءه وغادر القهوة. وذاع الخبر، وأعاد المعلم كرشة القصة التي رواها ابنه مرات ومرات على السائلين، فتناقلتها الألسن، وزادت عليها ما شاء لها الهوى، وجاء عم كامل القهوة مترنحا وقد دهمه الخبر فصعقه وارتمى على أريكة وراح يبكي بكاء مرا وينتحب كالأطفال، ولا يكاد يصدق أن الفتى - الذي أعد له كفنا - لم يعد من الأحياء. ونمى الخبر إلى أم حميدة فغادرت البيت مولولة حتى قال بعض من رآها: إنها «تبكي على القاتل لا القتيل!» وكان أشد الناس تأثرا السيد سليم علوان؛ لا حزنا على الفقيد، ولكن فزعا من الموت الذي اقتحم عليه الزقاق فأثار مخاوفه وضاعف آلامه، فعاودته أفكاره السوداء، وتصوراته المريضة، وأخيلة الاحتضار والموت والقبر التي نهكت أعصابه، واستحوذ عليه القلق فقامت قيامته ونبا به مجلسه، وجعل يروح ويجيء في الوكالة، أو يخرج إلى الزقاق فيلقي نظرة زائغة على الدكان الذي كان دكان الحلو أعواما طوالا. وكان أعفى نفسه - لشدة الحرارة - من شرب الماء الدافئ، فأمر العامل المكلف بخدمته بأن يدفئ له ماء للشرب كما كان يفعل في الشتاء، وقضى تلك الساعة نهبا للخوف والقلق وبكاء عم كامل يصك مسامعه صكا. •••
وانداحت هذه الفقاعة أيضا كسوابقها، واستوصى المدق بفضيلته الخالدة في النسيان وعدم الاكتراث، وظل كدأبه يبكي صباحا - إذا عرض له البكاء - ويقهقه ضاحكا عند المساء. وفيما بين هذا وذاك تصر الأبواب والنوافذ وهي تفتح، ثم تصر كرة أخرى وهي تغلق. ولم يحدث في هذه الفترة أمر ذو بال. اللهم إلا ما كان من إصرار الست سنية عفيفي على إخلاء الشقة التي كان يقطنها الدكتور بوشي قبل سجنه، وما كان من تطوع عم كامل بنقل أثاثه ومعداته الطبية إلى شقته، وقيل في تفسير هذا: إن عم كامل آثر إشراك الدكتور في مسكنه على الوحدة التي لم يألفها، ولم يعاتبه أحد في ذلك، بل لعلهم عدوها له من المكرمات؛ لأن السجن لم يكن مما يشين المرء في المدق.
وتحدثوا في تلك الأيام عن اتصال أم حميدة بابنتها التي دخلت في طور النقاهة والشفاء، وعما تحلم به المرأة من جني بعض ثمار هذا الكنز المترع. ثم ثار اهتمام الزقاق فجأة حين سكنت أسرة أحد القصابين شقة الدكتور بوشي، وكانت مكونة من القصاب وزوجه وسبعة من الأطفال وفتاة حسناء. قال حسين كرشة عنها: إنها كفلقة القمر. ولكن عندما اقترب موعد عودة الحاج رضوان الحسيني من الأقطار الحجازية لم يعد يفكر أحد إلا في هذا اليوم الموعود، وقد علقت الثريات والأعلام وفرشت أرض الزقاق بالرمل، ومنى الجميع نفوسهم بليلة فرح وسرور تدوم ذكراها على الأيام.
ويوما رأى الشيخ درويش عم كامل وهو يمازح الحلاق العجوز.
فهتف وهو يرفع رأسه إلى سقف القهوة:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
ولا القلب إلا أنه يتقلب
فتجهم وجه عم كامل، وانطفأ لونه، واغرورقت عيناه. ولكن الشيخ درويش هز منكبيه استهانة، وقال وعيناه لا تزالان شاخصتين إلى السقف:
من مات عشقا فليمت كمدا
لا خير في عشق بلا موت
Halaman tidak diketahui