وهتفت وهي لا تدري: عباس.
كان الفتى يلهث مبهورا بعد أن ركض شوطا كبيرا وراء العربة من ميدان الأوبرا، وقد اندفع لا يلوي على شيء، ويصطدم بالكتل البشرية، لا يعتاقه ما ناله من دفع، ولا يثنيه ما لحقه من شتم ولعن. وكان قبل ذلك يسير متأبطا ذراع حسين كرشة، يتخبطان على غير هدى - عقب مغادرتهما لحانة فيتا - حتى انتهى بهما التخبط إلى ميدان الأوبرا، فالتقى بصر حسين بالعربة التي تحمل حميدة، ورأى الجالسة بداخلها، فلم يعرفها وأرعش حاجبيه استحسانا وهو يلفت صاحبه إليها. ونظر عباس إلى العربة المقبلة عليهما في طوافهما بالميدان، وعلق بصره بالفتاة الغائبة في أفكارها ولم يستطع أن يسترد عينيه، جذبهما بقوة سحرية شيء في الوجه، وفي القوام، شيء كالشبه، أو هو شبه رقيق يحسه القلب قبل أن تحسه العينان، وتمشت في مفاصله رعدة انقلب بعدها من سكره الخفيف صاحيا، وهتف القلب: «هي؟» وكانت العربة قد ولته ظهرها مبتعدة نحو حديقة الأزبكية، فلم يأل عدوا وراءها بلا تدبر ولا تفكير، وصاحبه يزعق وراءه معربدا صاخبا، وعاقته حركة المرور برهة عند مطلع شارع فؤاد الأول، ولكن عينيه لم تتحولا عن العربة، ثم استأنف العدو جاهدا لا تكاد تسعفه قدرته إلا قليلا، حتى أدركها وهي توشك أن تدخل الحانة فناداها. ولما أن التفتت إليه وهتفت باسمه قطع الشك باليقين، وأدركت حواسه ما سبق القلب إليه، فوقف حيالها لاهثا مبهورا لا يدري كيف يصدق عينيه. وغلبتها الدهشة والانزعاج أول وهلة، واستحوذ عليها الانفعال، ثم شعرت بحرج موقفها وأشفقت من فضول المتسكعين، فتمالكت مشاعرها وأشارت إليه ومضت في عجلة إلى عطفة سابقة للحانة - وهو يتبعها - ودخلت أول باب إلى يسارها، وكان حانوت أزهار .. وحيتها بائعة الزهور - التي عرفتها بحكم ترددها على المكان - فردت تحيتها، وسارت به إلى نهاية الحانوت متحامية مواقع الأنظار. وأدركت بائعة الزهور أنها تريد أن تختلي بصاحبها، فمضت إلى مقعدها وراء معرض الزهور وجلست بغير مبالاة كأن أحدا لم يقتحم عليها حانوتها. وقفا وجها لوجه، يلفه الانفعال والحيرة وترتعش أطرافه تأثرا، ما الذي دعاه إلى هذا العدو القاتل؟! ماذا يروم من هذا اللقاء المغتصب؟! وجد نفسه في تلك اللحظة عريا من كل رأي أو عزم. ولقد كانت ذكريات الشر الذي هصر آماله - في أثناء عدوه - تذر على عينيه غبارا فتكاد تحجب عنه الطريق، ولكنه لم يبيت رأيا أو يستجد عزما، فركض ركضا آليا لا يتبين له غاية، حتى إذا هتفت باسمه فقد البقية من وعيه وتبعها إلى الحانوت كالسائر في نومه. وأخذ يفيق رويدا رويدا من الإعياء والجهد والانفعال، وراح بصره يعاين المرأة الواقفة حياله بلباسها الجديد وزينتها الغريبة، متلمسا عبثا أن يجد فيها موضعا للفتاة التي أحبها، فارتد البصر كليلا، وتجرع قلبه غصص اليأس المرير. لم تكن بساطة قلبه من البلاهة بحيث لا يدرك حقيقة ما يرى، ولقد أجبرته الشائعات في المدق على تصديق أمر فظيع، ولكن الشائعات بلا ريب كانت دون الحقيقة الماثلة لعينيه، وامتلأ قلبه المقهور شعورا بتفاهة الحياة وعبثها، بيد أن غضبه الذي أصلاه نارا حامية في ليله ونهاره لم ينفجر، فكان أبعد ما يكون عن البطش بها أو حتى البصق عليها. وجعلت حميدة تنظر إليه في ارتباك وحيرة، واستشعر قلبها خوفا حيال هذا الأثر من الماضي الذي تتحاماه، ولكنه لم يحرك بها عطفا أو ندما، بل استثار ازدراءها ومقتها، فلعنت في سرها شؤم الحظ الذي رمى به في طريقها. واشتد الصمت على أعصابهما، ولم يعد في الوسع احتماله، فقال الحلو بصوت مبحوح متهدج: حميدة! أهذا أنت؟ رباه كيف أصدق عيني؟! .. كيف هجرت بيتك وأمك وانقلبت إلى هذه الحال؟!
وأجابته في ارتباك غير خاف: لا تسألني عن شيء، فليس عندي ما أقوله، وهذا قضاء الله الذي لا يرد.
وأحدث ارتباكها وقولها المستكين عكس المنتظر، فاستفزا غضبه وأثارا حنقه، فعلا صوته مزمجرا حتى ملأ الحانوت: كاذبة فاجرة .. أغواك فاجر مثلك ففررت معه، وتركت وراءك في حيك أسوأ الذكرى، وها هو الفجر السافر يطالعني في وجهك وتبرجك الفاضح.
واستفز هذا الغضب المفاجئ شراستها الطبيعية، فغضبت غضبة عنيفة مسحت عن صدرها ما اعتوره من ارتباك وخوف، وضاعفها ما احتملته في يومها من حنق وخيبة، فاربد وجهها وصرخت في جنون: صه .. لا تزعق كالمجانين، أحسبت أنك تخوفني بصراخك؟! ماذا تريد مني يا هذا؟ لا حق لك علي، فاغرب عن وجهي.
وخبا غضبه قبل أن تتم كلامها! قهر غضبها غضبه فأماته في صدره، وكأنه كان يشعله الماء وتطفئه النار. وحملق في وجهها ذاهلا وغمغم بصوت مرتعش النبرات: كيف سولت لك نفسك أن تقولي هذا القول؟ .. ألست ... ألم تكوني خطيبتي؟
وتشفت بهزيمته، وارتاحت إلى غضبتها التي أسعفتها في الوقت المناسب، وقالت بتململ: أي فائدة تجني من ذكر الماضي الآن؟ لقد مضى وانقضى.
فقال متحيرا متوجعا: أجل مضى وانقضى، ولكني في حيرة من أمري وأمرك، ألم تقبلي يدي؟ .. ألم أهاجر إلى ذاك البلد البعيد من أجل سعادتنا معا؟!
لم تعد تشعر نحوه بارتباك أو حرج، وتساءلت في جزع: متى يمسك عن هذا؟ متى يفهم؟ متى يرحل؟ ثم قالت بلهجة لا تخلو من برم: أردت شيئا، وأرادت الأقدار سواه.
ولم يغب عنه تململها ولكنه بات أشد تشبثا بالكلام والاستفسار، واستمد من سكوت غضبها شجاعة فراح يقول بيأس: ماذا صنعت بنفسك؟ كيف انقلبت إلى هذا المصير الأسود؟ .. أي شؤم أعمى بصيرتك؟ .. ومن يكون (وهنا استغلظ صوته) ذلك المجرم الذي خطفك من حياتك الطاهرة وطرحك في مزبلة الدعارة؟
Halaman tidak diketahui