فقالت الست سنية في سرور: لك عيناي يا ست أم حميدة! - سلمت عيناك، ربنا يهيئ ما فيه الخير.
فهزت رأسها الأخرى كالمتعجبة وقالت: يا للعجب! جئتك لمجرد الزيارة فانظري كيف انتهى بنا الحديث؟ وكيف أغادرك في حكم المتزوجات؟!
فجارتها أم حميدة في ضحكها كالمتعجبة أيضا، وإن راحت تقول لنفسها: «يا مرة احتشمي، أتحسبين أن مكرك يجوز علي؟!» ثم قالت: إرادة ربنا! أليس كل شيء بأمره؟!
وعادت الست سنية عفيفي إلى شقتها مسرورة فرحة؛ بيد أنها حادثت نفسها قائلة: «إيجار شقة مدى الحياة! يا لها من امرأة جشعة.»
3
ودخلت حميدة الحجرة عقب مغادرة الست سنية لها. كانت تمشط شعرها الأسود تفوح منه رائحة الكيروسين، فنظرت أم حميدة إلى الشعر الفاحم اللامع تكاد تجاوز ذؤاباته المسترسلة ركبتي الفتاة، وقالت بأسف: واحسرتاه! كيف تدعين القمل يرعى هذا الشعر الجميل؟!
فبرقت عينان سوداوان مكحلتان بأهداب وطف، ولاحت فيهما نظرة حادة صارمة، وقالت الفتاة بحدة: قمل؟! والنبي، ما وجد المشط إلا قملتين اثنتين! - أنسيت يوم مشطتك من أسبوعين وهرست لك عشرين قملة؟!
فقالت بغير مبالاة: كان مضى على رأسي شهران بلا غسيل.
ثم اشتد ساعدها في التمشيط وهي تجلس جنب أمها. كانت في العشرين، متوسطة القامة، رشيقة القوام، نحاسية البشرة، يميل وجهها للطول، في نقاء ورواء، وأميز ما يميزها عينان سوداوان جميلتان، لهما حور بديع فاتن، ولكنها إذا أطبقت شفتيها الرقيقتين وحدت بصرها تلبستها حالة من القوة والصرامة لا عهد للنساء بها! وقد كان غضبها دائما مما لا يستهان به حتى في زقاق المدق نفسه. وأمها على ما اشتهرت به من القوة تتحاماها ما استطاعت. قالت لها يوما وهما تتسابان: «لن يلم الله شعثك برجل، فأي رجل يرضى بأن يضم إلى صدره جمرة موقدة؟!» وكانت تقول في مرات أخرى: إن جنونا لا شك فيه ينتاب ابنتها حين الغضب، وسمتها لذلك «الخمسين»، باسم الرياح المعروفة. ومع ذلك كانت تحبها كثيرا؛ وإن كانت في الحقيقة أمها بالتبني. كانت الأم الحقيقية شريكة لها في الاتجار بالمفتقة والمغات، ثم شاطرتها شقتها بالزقاق في ظروف سيئة، وأخيرا ماتت بين يديها تاركة طفلتها في سن الرضاع، فتبنتها أم حميدة، وعهدت بها إلى زوج المعلم كرشة القهوجي فأرضعتها مع ابنها حسين كرشة، فهي أخته بالرضاعة.
مضت تمشط شعرها الفاحم منتظرة كالعادة أن تعلق أمها على الزيارة والزائرة، ولما طال الصمت قالت الفتاة: طالت الزيارة، فيم كنتما تتحدثان؟
Halaman tidak diketahui