إنما اليوم ككل يوم، عيد الناموس الفرد الذي يعجن أشكالا تبدعها الطبيعة العلماء. يجبلها باليد الواحدة التي تدعى التكييف قطعا ذات صور معينة. ولا يفتأ يستخرج الجديد من القديم، ويدغم القديم في الجديد؛ ليتم للأحقاب تعاقبها بالبشر والأفلاك والزمان في مجاهل اللانهاية الخالدة.
في مرقص الحياة
... ودرجت في التيار المكتسح الملايين، فبلغت جوانب الميدان الفسيح الذي تلجه الأفواج من جميع المناهج، حتى إذا أنمتها الأيام والاختبار تغلغلت فيه شيئا فشيئا. في ذلك الميدان، تقيم الحياة مرقصها، ليس في قصر واحد كما ظننت قبلا، بل في مئات الألوف من القصور والمنازل والأكواخ وما بينها من الصحارى والواحات والجبال والوهاد والبحار. وما كنت إخاله ألحاظ نور تناديني وجدته مزيجا من مشاعل الانتصار، وأضواء الأفراح، ولمعان الأسلحة، وشموع الجنازات، ووقود التدفئة، ومسارج النذور، ونباريس الاجتهاد والعناء، والنشيد الذي حسبته أهزوجة طرب وحبور، كان خليطا هائلا من صراخ الصرعى، وعويل الهلكى، واستغاثة الغرقى، وأنين المحرومين، واسترحام المتوجعين، وتهليل الفرحين والسعداء والمستفلحين، وابتهال الأتقياء والزهاد والمصلين، وزفير الحفيظة والشماتة، وصعق التحريض والتهديد والاستنزال، وحمد القناعة والشكر والرضوان، وألوف ألوف الأصوات المؤلفة نشيد الحياة الرائع المستديم.
والقدرة الخفية التي أوقفتني في الكوة ثم دفعت بي إلى السير، وأوصلتني إلى هذا الميدان، هي التي سوتني، والذين جعلتهم حولي يصفقون ويلطمون، فتذمرت مع الضعفاء، وانتصرت مع الأقوياء، وتواكلت كالطفيليين، وتنشطت كالنبلاء، فعرفت كيف يعز الناس وكيف يذلون، كيف يجوعون ويشبعون، كيف يؤلمون ويتألمون، كيف يستبدون ويظلمون. عرفت عبودية المساكين وحسدهم ولجاجتهم، واستقلال الأغنياء وأناقتهم وجفافهم، عرفت أن لكل امرئ غما وإن هش وبش، وأن لكل عاتق حملا وإن تقوم وانتصب، وأن لكل من أسرى الحياة أطماعا ومطالب وشكايات؛ فواحد يبتغي الفوز بالحذق والجهود، وواحد يكد ولا ينال شيئا، وواحد لا يتعب ولكنه ينال كل شيء، وواحد يصيح بأنه ذو حق ونصيب، وليس له الكفاءة والاجتهاد اللازم للظفر بذلك الحق، والتمتع بهذا النصيب. وبينا جلبة الأصوات تتعالى من كل صوب؛ يطغى المد جارفا الجماهير والأنظمة والجهود والمطامع فيحتضنها من الحياة العباب الرجاف ، كما يحتضن الخضم الزاخر ملايين القطرات التي لا تعد ولا تحصى، وتظل الحياة محيية مرقصها حيث تتابع الأشباح والصور واللغو والحركات والأنوار والظلمات ...
وها أنا ذا أسير في أطراف مرقص الحياة معانية ما يعانيه مساجين الوجود جميعا، يبرح بي وإياهم الشوق إلى السعادة، وأتلقى مثلهم ذلك الوحي المتجدد بوجودها، وعند كل خطوة خيبة وكمد، وعند كل خطوة أمل وجذل، وعند كل خطوة روعة حيال هذا السيل الحيوي الذي يتدفق مرغيا مزبدا إلي حيث لا يدري، وعند كل خطوة استفهام لا جواب له عن معنى الحياة وغايتها، عن معنى الألم وغايته، عن معنى الطرب وغايته، وعند كل خطوة سؤال للكون: لماذا وجدت النفس الإنسانية كالنحاس المجوف ترجع لكل صوت يقرعها صدى رنانا عميقا وجيعا ...
كن سعيدا
في هيكل الأشجان الإنسانية وقف الزعيم الأكبر يخطب في القوم فسمعته يقول: «إذا كنت غنيا كن سعيدا؛ لأن مزاولة الأمور الخطيرة هيئت لك، وكنت مشكور الصالحات مرجو الجميل. لقد عز جانبك، ومنعت حوزتك، ونشر رواق العز فوق ذمارك، فتم لك وجه من وجوه الحرية والاستقلال، وإن كنت فقيرا فكن سعيدا! لأنك سلمت من شلل معنوي ابتلي به من دانت لرغبته جميع المطالب، ووقيت ما عرض له السري من حسد وكره، فلا تتلظى الصدور لنعمتك، ولا ينظر إلى متاعك بعين مريضة.
إذا كنت محسنا فكن سعيدا؛ لأنك ملأت الأيدي الفارغة، وسترت الأجساد العارية، وكونت من لا كيان له فرضيت عن نفسك، ووددت إسعاد عشرات ومئات لتتضاعف مسرتك النبيلة الواحدة بتعدد المنتفعين بأسبابها. وإن عجزت عن الإحسان فكن سعيدا؛ فقد أجلت ساعة تشهد فيها نكران الجميل ممن صانعت، فاتخذ المعروف سلاحا يهددك به، حاسبا التجني شجاعة، والسفاهة حذقا. تلك الساعة لا بد من مرورها، فتتوتر لها أعصابك، ويفوز سخطك، وتقسو عواطفك، ويجف منهل كرمك، وتحتقر الإنسان، وتيأس من إصلاحه قبل أن تصل إلى قمة الغفران السامي، والتغاضي الحكيم.
إذا كنت شابا فكن سعيدا؛ لأن شجرة مطالبك مخضلة الغصون، وقد بعد أمامك مرمى الآمال، فتيسر لك إخراج الأحلام إلى حيز الواقع إذا كنت بذلك حقيقا، وإذا كنت شيخا فكن سعيدا؛ لأنك عركت الدهر وناسه، وألقيت إليك من صدق الفراسة وحسن المعالجة مقاليد الأمور، فكل أعمالك إن شئت منافع، والدقيقة الواحدة توازي من عمرك أعواما؛ لأنها حافلة بالخبرة والتبصر وأصالة الرأي، كأنها ثمرة الخريف موفورة النضج، غزيرة العصير، أشبعت بمادة الاكتمال والدسم والرغبة.
إذا كنت رجلا فكن سعيدا؛ لأن في شهامة الرجولة يتجسم معنى الحياة الأكبر، وإذا كنت امرأة فكن سعيدا؛ فالمرأة منشودة الرجل، ونبلها موضع اتكاله، وعذوبتها مستودع تعزيته، وبسمتها مكافأة أتعابه.
Halaman tidak diketahui