والذين عرفوا شوقي، ولو من خلال أشعاره، يستطيعون أن يقولوا، دون أن يتجاوزوا الحقيقة، إن شوقي كان يحس في أعماقه، أن التقدير الكبير الذي لقيه وهو حي، سوف يتضاعف بعدما ينتقل إلى العالم المجهول، ربما لم يدر في خياله أن روما ستسبق مصر إلى إقامة تمثال له، ولكن الشيء الذي كان على يقين منه هو أن وطنه سيقيم له التماثيل في الحدائق والميادين، بعدما يتحرر من جسده، ولا يبقى منه إلا الروح والشعر والفن!
ولكن الذي حدث أن إيطاليا سبقتنا إلى تكريم العبقرية العربية، فقررت أن تضع تمثال شوقي في حديقة الخالدين بروما، إلى جانب تماثيل عباقرة العالم، وأقامت لهذه المناسبة احتفالا رسميا، حضره وزير الثقافة الإيطالي، وعمدة روما، والفنانون، والعلماء، والشعراء، ورجال سفارتنا، وعشرات من مختلف البلاد العربية، بينهم الفنان المصري العربي جمال السجيني صانع التمثال، وتولى الوزير المصري العربي ثروت عكاشة إزاحة الستار عن تمثال العبقرية المصرية العربية، أمير شعراء العرب، وشاعر الإنسانية، الذي انفعل بحضارتها ومفاتنها ومآسيها، وكان شعره صدى للأحداث التي شهدها بنفسه، أو عاشها في التاريخ.
ولقد كرمت مصر شاعرها الأكبر بأساليب مختلفة، فأطلقت اسمه على الشوارع، ووضعت جوائز تشجيعية باسم أمير الشعراء، واحتفلت بذكراه، وأصدرت عدة دراسات عنه، وقررت إقامة أربعة تماثيل له؛ أحدها في الجيزة، والثاني في الإسكندرية، والثالث في مبنى مجلس الفنون الأعلى، والرابع في مدخل دار الأوبرا الجديدة، التي سيتم بناؤها في الحديقة المقابلة لحديقة الأندلس بجوار قصر النيل.
1
وشوقي لم يستمد مكانته الخالدة من أنه كان شاعر الأمراء، أو أمير الشعراء، وإنما استمد هذه المكانة لأنه كان شاعرا حقا، امتاز بموهبة صقلتها ثقافة متعددة الجوانب، وعقلية متفتحة واعية، وفن أصيل ينبض بالحياة والإنسانية، وتنبض فيه الحياة والإنسانية.
والأشكال ما هي إلا زخارف وألوان، وإنما الشاعر هو من تحس أنه خلق جوهرا، أو حقيقة، أو جوا، فإذا ارتبط هذا الخلق، بالشكل الذي يلائمه ارتباطا موسيقيا، في عمل واحد متكامل أو محاولة جديدة لم تتم؛ كان الشاعر جديرا بالبقاء.
وشوقي، مثل أي فنان، بدأ بمحاكاة غيره، وعاش فترة طويلة يستعمل الديباجة التي استعملها من سبقوه من الشعراء، وكان يجاريهم فيلحق بهم ويسبقهم ويتخلف عنهم، ثم عثر على نفسه فصار حرا، له شخصية فنية فذة، خلقت في الشعر العربي جوهرا، وحقيقة، وجوا، فشوقي عالج أحداث التاريخ بأسلوب جديد ساحر، وصنع لوحات وتماثيل رائعة لآثار قدماء المصريين، ووضع أول محاولة جادة للمسرحية الشعرية في الأدب العربي.
ولم يكن مجرد شاعر، ينسق الجملة تنسيقا موسيقيا، ولكن كان له إلهام، وهذا هو الفرق بين الشعر الصحيح، والشعر الزائف، فالشاعر الملهم يعتقد أن انفعالاته الذهنية والنفسية إنما هي وحي من قوة ذات قداسة، وليس من حقه أن يتصرف في التعبير عن هذا الوحي، فيضع كلمة غير الكلمة التي يجب أن يعبر بها عن الوحي، ولو كانت الكلمتان متشابهتين، بل يجب عليه أن يقول الكلمة ولو كلفه ذلك أن يعاني من الألم، والإرهاق، والعذاب، وما يفوق طاقته. وقد رأيت شوقي وهو يسجل خواطره، كان يخيل إلي أنه مجنون، أصيب بغتة بنوبة صرع، كان يجلس بيننا، ثم يقفز من مكانه إلى مكان آخر، ويخرج من جيب سترته علبة السجائر ويكتب فيها كلمات، ويعود إلينا أو نلحق به، والعرق يتصبب من جبهته وعيناه مغرورقتان في لمعان أشبه بالدموع، وأنفاسه لاهثة!
وكانت هذه الحالة تنتابه طيلة معاناته نظم إحدى قصائده، فإذا فرغ من تسجيل خواطره ساعة بساعة، ويوما بعد يوم، وضع رأسه بين كفيه وأملى القصيدة كاملة على أحد المقربين إليه، ثم عاد إلى مراجعة الأوراق والقصاصات التي سبق أن سجل فيها خواطر للقصيدة، فإذا ما أملاه عن ذاكرته لا يكاد يختلف عما سجله في بضعة أيام متفرقة، إلا في كلمة أو كلمتين! وقد كان شوقي مؤمنا بأنه شاعر أعماق وجذور، وكان مع ذلك يفزع من مهاجمة النقاد له، وكثيرا ما سئل: لماذا تخاف حملات النقد؟ فكان يقول إنه فنان، والفنان يسعده أن يقتنع جيله بعمله، فإذا ما استمرت حملات النقد، فقد يتأثر بها أبناء الجيل، وينصرفون عن الفنان وهو حي، ولا يقبلون عليه إلا بعدما يموت!
كان يؤمن بأنه سيعيش بشعره، سيعيش آلاف السنين، ولم يكن يخفي هذا الإيمان، بل لعله عبر عنه عشرات المرات في عدة قصائد، فعندما رثى الزعيم الوطني مصطفى كامل قال:
Halaman tidak diketahui