وبلغ الخبر السلطان عبد الحميد، فضيق الخناق على تحركات جمال الدين الأفغاني، ومنعه من مغادرة تركيا، وقد وصف جمال الدين الأفغاني إقامته في الآستانة، فقال: إن البيئة هناك أثرت في عقله وفكره وقلبه، وإن ذهنه كان ممسوحا كأن لم يكن فيه شيء من العلوم والآراء!
وبقي جمال الدين الأفغاني في تركيا حبيسا - كما قيل - في قفص من ذهب، كان يتردد عليه بعض زائري الآستانة من أحرار المسلمين مثل الأمير شكيب أرسلان وعبد الله النديم، وكان النديم يغار من حب جمال الدين الأفغاني لمحمد عبده، ولما غضب جمال الدين الأفغاني على الشيخ محمد عبده؛ لأنه ينشر مقالاته بدون توقيع، أرسل إليه يلومه على ذلك ويقول: «لماذا تكتب ولا تمضي؟ ولماذا تعقد الألغاز؟ أمامك الموت ولا ينجيك الخوف، فكن فيلسوفا يرى العالم ألعوبة، ولا تكن صبيا هلوعا.»
وانتهز عبد الله النديم هذه الفرصة، وقال لجمال الدين الأفغاني إنك لا تزال تصف الشيخ عبده بأنه صديقك، وما زلت تسرف في الثناء عليه كأنه لم يكن لك صديق غيره! فضحك الأفغاني وقال له: وأنت يا عبد الله صديقي، ولكن الفرق بينكما أنه كان صديقي في الضراء، وأنت صديقي في السراء!
وعندما تلقى الشيخ عبده رسالة جمال الدين، تملكه الحزن وكرر حكمته المأثورة: هذا رجل يهدم بالحدة ما يبنيه بالفطنة. •••
ومرض الأفغاني في الآستانة، وأرسل إليه عبد الحميد طبيبه الخاص، فغمس لسانه في ميكروب فأصيب بمرض عضال، ومات في عام 1897، وأمر السلطان بدفنه على عجل.
مات الأفغاني شخصا؛ ليحيا أفكارا، ومشاعر، وثورات، ويعيش في كل عقل وكل قلب وكل زمن!
شاعر الثورة
رأت عيناه النور في أرض مصر حوالي عام 1840، وكانت بيئته وأسرته والظروف السياسية والاجتماعية كفيلة بأن تجعل منه أداة تعذب بها نفوسنا، التي قهرها الطغاة والظالمون والغزاة، الذين اغتصبوا حقنا في أن نعيش أحرارا، فهذا الطفل الصغير، الناعم البشرة، الأبيض، الوسيم الملامح، يجري في عروقه دم تركي ودم شركسي، واللغة العربية غريبة في بيته، واللهجة المصرية لا يكاد يسمعها، فالخادم من الحبشة، ومربيته شركسية، والبواب أرناءوطي!
وقد دخل المدرسة العسكرية ليكون ضابطا في الجيش الذي استأثر الشراكسة والأتراك بقيادته وأعلى مناصبه، وربما راوده الأمل في أن يصبح ذت يوم أحد أعوان الخديو في الجيش، ولم لا؟ إنه مثل هؤلاء الضباط الأتراك والشراكسة أناقة ورشاقة وانتسابا على نحو إلى الترك والشراكسة.
ولقد صار ضابطا كبيرا ووزيرا للحربية ورئيسا للوزارة، ولكنه لم يكن - كما ظن الحاكمون - عدوا للشعب، وإنما كان واحدا من الشعب، فإن ملامحه فقط كانت تركية شركسية، أما روحه فإنها مصرية عربية.
Halaman tidak diketahui