صوتها يخرج مبحوحا مشروخا كأنما في الحلم. يتجمع حولها الناس يسألون: مين سرقها يا ست هانم؟ - مش عارفة، كانت في الشنطة، سرقوا الرواية من جوه الشنطة وأنا نايمة! - مين يا ستي سرقها؟ - مش عارفة، يمكن البوليس مش عارفة، يمكن الحرامية. - قصدك البوليس هم الحرامية؟ - يمكن حد تاني غير البوليس وغير الحرامية. - حد تاني مين؟ عارفة اسمه؟ عارفه شكله؟ - مش عارفة يا ناس، مش عارفة، روايتي راحت يا ناس، شقا عمري كله راح يا ناس.
تتلفت بدور الدامهيري حولها في ذهول، تغيب الشمس ويهبط الليل وهي تتلفت حولها، تمسح الأرض والسماء بعينيها المفتوحتين في الظلام، تزحف فوق الرصيف تبحث، تمد يدها تبحث تحت الدكك الخشبية على شاطئ النيل، تتحسس الحجر والزلط، تنخل التراب بيديها، يتسرب من بين أصابعها كالماء يتسرب من ثقوب الغربال، لا يبقى شيء في يديها، تتعثر قدماها وهي تمشي في شيء ملفوف داخل ورقة من أوراق الصحف. تفتح الجريدة لا تجد شيئا، إلا عمود زوجها الطويل الرفيع، يتلوى تحت يدها مثل ثعبان يغطيه الطين وبراز الكلاب الشاردة، وضعت نظارتها وقرأت عموده بصعوبة في الضوء الغارب: تقدمت بعض النسوة من الأمهات النائبات عن مليونين من الأطفال غير الشرعيين، بمشروع قانون جديد لمجلس الشعب والشورى، يسمح للطفل ابن الزنى غير المعروف الأب أن يحمل اسم أمه، أن تحذف كلمة ابن الزنى من قاموس اللغة، أن يكون لاسم الأم الشرف كاملا مثل اسم الأب، هذا المشروع أيها القراء الأعزاء تم رفضه بالكامل في المجلسين الموقرين، رفضه جميع الأعضاء الرجال والنساء؛ لأنه يشجع على الفساد والحرية الجنسية للنساء، وقد تم تقديم هؤلاء النسوة إلى المحاكمة بتهمة الخروج على الدين الحنيف وتهديد النظام العام للدولة، لكن من أجل الرأفة بهؤلاء الأطفال المساكين، وقد زاد عددهم عن مليوني طفل وطفلة، تقدمت اللجنة العليا بالحكومة، لرعاية الأمومة والطفولة، بمشروع آخر لمجلسي الشعب والشورى، يسمح للطفل ابن الزنى أن يحمل اسم أي رجل، يكون بمثابة الأب الوهمي للطفل، من أجل الحفاظ على حقوق الطفل البريء، وقد حظي هذا المشروع بموافقة الأزهر الشريف، والحكومة، لكن أعضاء المجلسين الموقرين يدرسون المشروع من كافة النواحي التشريعية، فهو مشروع شائك محفوف بالمخاطر والمنزلقات الأخلاقية.
وكانت اللجنة قد سبق لها التقدم بمشروع من ثلاثة بنود: (1)
تقديم الرجال للمحاكمة في حالة ثبوت الخيانة الزوجية. (2)
لا يحق للزوج معاشرة زوجته جنسيا بالقوة والعنف في أي وقت. (3)
يحق للأم أن تعطي اسمها لطفلها غير المعروف الأب.
لكن الأزهر الشريف رفض هذا المشروع ببنوده الثلاثة، فهو مشروع يتنافى مع القيم الأصيلة لمجتمعنا الإسلامي وخصوصيتنا الثقافية وتقاليدنا التي نشأنا عليها، بل يتنافى مع العلم والإيمان؛ لأن العلم يؤكد أن العدل ليس مطلقا، بل إنه نسبي، يخضع لظروف المكان والزمان، ولا شيء يكون كاملا ومطلقا إلا الإيمان بالله سبحانه وتعالى. توقيع، زكريا الخرتيتي، البريد الإلكتروني، زززككككرياااااادوط. كوم كوم.
لم تكن بدور الدامهيري قد ماتت بعد، كانت تعيش أيامها الأخيرة مع دادا زينات في غرفتها بالبدروم، بدأت تكتب رواية جديدة، لكن مشقة العيش لم تساعدها على الكتابة، لم تتعود بدور النوم في سرير خشبي غير مريح، لا تستطيع الجلوس على الأرض الأسفلت، لا تستطيع النوم في غرفة تجري فيها الصراصير، تطن في أذنيها أصوات الذباب والبعوض، تلوح لها غرفة نومها في جاردن سيتي كالجنة المفقودة.
صباح ذات يوم وهي تفتح الجريدة، قرأت خبرا داخل برواز بالبنط العريض: الكاتب الكبير زكريا الخرتيتي صدرت له رواية جديدة، موجودة في الأسواق، وفي مكتبة الجريدة الكبرى بشارع التحرير، احجز نسختك من الآن.
نهضت بدور الدامهيري من النوم، أخذت تجري في الشارع، تتوقف قليلا لتأخذ نفسا، ثم تجري وتجري، رأت الرواية تحمل اسم زوجها، روايتها التي كتبتها بالدم والعرق وسهر الليالي، هي روايتها التي كتبتها، كل كلمة، كل حرف، كل نقطة، كل شرطة، كل همزة، كل شدة، كل فتحة وكل كسرة، هي روايتها، منشورة في كل مكان باسم الكاتب الكبير زكريا الخرتيتي.
Halaman tidak diketahui