لم تكن مجيدة الخرتيتي تكتب مقالها يوم الخميس، لا تذهب إلى مكتبها يوم الخميس، فهو اليوم الذي تذهب فيه إلى النادي لتلعب الجولف مع أبيها. كان ملعب الجولف هو المكان حيث يلتقي كبار الكتاب من أهل الصحافة والأدب والثقافة، معظمهم رجال والقليلات نساء. كاتبات وناقدات مرموقات أصبح الجولف هوايتهم الجديدة، أو الكروكية؛ تمشي الواحدة أو الواحد منهم تحت أشعة الشمس في الهواء الطلق، من خلفها أو من خلفه صبي شاحب الوجه بشرته محروقة بالشمس، مبقعة بدوائر بيضاء ونمش أسود، يشبه ولدا من أولاد الشوارع، يمشي من خلفها أو من خلفه يجر عربة محملة بالمضارب والكرات، تمسك الواحدة منهن المضرب بأصابع بضة سمينة أظفارها طويلة حمراء، أو بنفسجية، أو برتقالية حسب الموضة في ذلك الوقت. ينثني جسدها المربع فوق الكرة ، تضربها ضربة خفيفة مليئة بحنان الأنوثة، تطير الكرة الصغيرة مسافة متر أو مترين ثم تسقط فوق الحشيش الأخضر المحلوق بعناية، الناعم مثل وجه زكريا الخرتيتي بعد الحلاقة.
كان رئيس التحرير يلعب الجولف حين قال لها: اسمعي يا مجيدة، أريد منك مقالا عن إنجازات السيدة الأولى في عيد المرأة القادم، كانت المجلة تستعد لعدد خاص بمناسبة عيد المرأة العالمي، أو ربما كان عيد ميلاد الرئيس أو السيدة الأولى. ينتهز رئيس التحرير هذه المناسبات ليجدد الولاء والطاعة والإخلاص لأصحاب النعمة، يتسابق المحررون والمحررات لنيل الجائزة، يحلق خيالهم لخلق مشروعات لم تحدث وإنجازات لم تنجز، يتكدسون في صالة التحرير الكبيرة في الدور الأسفل، عددهم بالعشرات أو المئات، يتبادلون الجلوس في المكاتب القليلة تشبه الكراسي الموسيقية، يتنافسون للجلوس عليها، يقولون عنهم صغار المحررين والمحررات، قد يكون بعضهم في مراحل الشيخوخة، أو في منتصف العمر، يظلون تحت كادر العمال بالقطعة، أو تحت اسم التدريب دون مكافأة، ليس لهم وساطة في الجهات العليا ترفعهم من الصغار إلى الكبار، بقرار جمهوري أو قرار وزاري، مكتوب أو غير مكتوب.
كانت مجيدة الخرتيتي تستأجر واحدا من هؤلاء المحررين الصغار ليكتب لها المقالة، تدفع له مائة وستين جنيها في الشهر مقابل أربع مقالات، كل مقالة بأربعين جنيها، كانت هي تحصل على راتب شهري قدره ثمانية آلاف جنيه، تأخذ على المقالة الواحدة ألفين من الجنيهات، كل جنيه ينطح أخاه، بلغة الفقراء العاطلين من أهل الريف.
فوق مكتبها كانت أربعة خطوط ملونة، الأحمر خاص برئيس التحرير، الأخضر خاص بمدير مكتبها، الأبيض خاص بالسكرتير الخاص، الأسود خاص بصالة التحرير السفلية.
تمد مجيدة يدها البضة السمينة إلى التلفون الأسود، تسأل عن محررها الشاب الفقير كاتب المقال: تعال مكتبي حالا يا محمد.
لا تناديه يا أستاذ محمد كما تنادي المحررين الكبار، لا تسأله إن كان عنده وقت للصعود حالا إلى مكتبها، تعرف أنه سوف يصعد إليها حالا إن طلبته؛ فهو تحت الطلب في أي وقت، مقابل مائة وستين جنيها في الشهر، يطعم بها أطفاله وأمه المريضة، ويشتري لنفسه بعض الكتب أو الروايات الجديدة.
يصعد محمد بقامته النحيلة ووجهه الشاحب الطويل إلى الدور العلوي، يركب المصعد الفاخر الخاص بكبار المحررين وكبيرات المحررات، ينزلق المصعد إلى أعلى بصوت ناعم خافت كالنسيم، يجتاز محمد بحذائه المغطى بالتراب الممرات الطويلة المفروشة بالسجاد العجمي، جدرانها مغطاة برسومات الفنانين، صور الوزراء والملوك والرؤساء، صورة رئيس التحرير تطل من البرواز الذهبي إلى جوار صورة المنفلوطي وطه حسين، وشكسبير وبرناردشو، يضم رئيس التحرير صورته مع هؤلاء، كأنما يصبح كاتبا عظيما لمجرد وضع صورته على الحائط مع العظماء.
توقف محمد يلهث أمام الباب، تعلوه رقعة ذهبية اللون لامعة محفور عليها الاسم «مجيدة الخرتيتي» بحروف تشبه أشعة الشمس، لا تأتي مجيدة إلى مكتبها إلا قليلا، أحيانا مرة واحدة في الشهر لتقبض راتبها، لكنها دائمة الحضور في اجتماعات الرئيس والسيدة الأولى، وحفلات الرئاسة، ومهرجانات رئيس التحرير في المناسبات الأدبية والفنية والثقافية.
قبل أن يدخل إلى مكتبها أوقفه مدير المكتب يسأله عن اسمه، وما غرض المقابلة؟ قال له: إن الأستاذة غير موجودة، في اجتماع هام مع رئيس التحرير. - الأستاذة طلبتني بالتلفون من دقيقة واحدة يا أستاذ، الأمر مهم ومستعجل خاص بالمقال بتاعها يا أستاذ. - آه، متأسف، هي لسه راجعة حالا من الاجتماع، اتفضل يا أستاذ محمد.
دخل محمد إلى المكتب الفاخر، يغوص كعب حذائه المتآكل في السجادة العجمية السمينة، لها ملمس اللحم الطري الناعم. خلف مكتبها الضخم كانت مجيدة الخرتيتي جالسة بجسمها القصير المربع، لا يكاد رأسها يطل من فوق البنورة الكبيرة اللامعة، فوق الحائط من خلفها تطل صورة رئيس الدولة والسيدة الأولى داخل برواز ذهبي كبير، أسنان الرئيس نصف مكشوفة في نصف ابتسامة، أو نصف تكشيرة عسكرية نصف حازمة. أسنان السيدة الأولى مكشوفة في ابتسامة أنثوية عريضة، من تحتهما صورة الوزير، من تحته صورة رئيس التحرير، يتناقص حجم برواز الصورة بالهبوط من أعلى إلى أسفل، يقل سمك الذهب في البرواز، أو يتحول الذهب إلى معدن آخر يشبه الفضة أو النحاس أو القصدير.
Halaman tidak diketahui