يشوح زكريا الخرتيتي بيده في وجه بدرية، يطردها بعيدا عنه كما يطرد شبح إبليس. - اغربي عن وجهي أيتها الحية الرقطاء، التي أخرجت آدم من الجنة.
لكن بدرية ليست زوجته بدور. ليس لها جسد بدور لترقد تحته، يخضعها في السرير حين يعجز عن إخضاعها في الرواية، تفضح بدرية حقيقته المخفية في أحشائه، لا تعرف زوجته بدور حقيقته، لا يبوح لها بأسراره، لا يبوح لأحد بأسراره حتى لنفسه، حتى الطبيب النفسي، لم يعرف أسراره. كان يؤلف لنفسه أسرارا بريئة، أسرارا نظيفة، وذكريات طفولة لم تحدث إلا في خياله، يكتبها في عموده اليومي تحت اسم: العلم والإيمان ، وأمانة الكلمة، والصدق، والوفاء بالعهد، والإخلاص لله والوطن والرئيس.
يمسح زكريا الخرتيتي دموعه بكفه، يتصبب العرق غزيرا فوق أوراق الرواية. مع دموعه يختلط عرقه فوق أوراق الرواية مع قطرات دموعه، يختلط عرقه فوق الورق مع عرق زوجته، كما كان يختلط فوق السرير في لحظات اللذة المبتورة الموقنة، والألم غير المبتور. يهمس في أذن بدرية كأنما هي عشيقته الساذجة الغريرة، سكرتيرة المكتب وخادمة السرير. - زوجني يا حبيبتي لم تمنحني إلا التعاسة، أنا زوج تعيس لم يذق طعم اللذة في سرير الزوجية، زوجتي باردة يا حبيبتي، لا تهتز فيها شعرة.
يهمس في أذن الخادمة السكرتيرة بكلمات بذيئة. - يا بنت الزنى يا بنت القحبة، أنت أجمل بنات الدنيا والآخرة، أنت حورية الجنة، أنت العذراء البتول لا تفقد عذريتها الأبدية، وإن تمزق غشاؤها آلاف المرات، وإن اشتعل عود كبريتها ملايين المرات، أنت ملاذي وخلاصي من الحزن الدفين، أنت سعادتي وجنتي، خذيني بين ذراعيك، بين ساقيك، أذيقيني العسل في عسيلتك، ارفعيني إلى سماء الحب والإيمان، واهبطي بي إلى أرض الجسد المدنس، صبي في أذني كلمات الله والشيطان، تكلمي يا بنت الزنى، يا بنت الزانية، واملئي أذني بالبذاءة لأصل إلى قمة اللذة.
كان لبدرية أذن مرهفة، أذن مفتوحة لا تنام تشبه عين الله الساهرة ليل نهار، تلتقط الكلمات قبل أن تنطق بها الأفواه؛ ربما لأن بدرية لم يكن لها جسد. كانت روحا محلقة في الخيال مثل روح الله وروح الشيطان، وسائر الأرواح الخفية. كانت بدرية مجرد فكرة في رأس بدور النائمة، تتراءى لبدور في النوم، تتلاشى حين تطفئ لمبة النور، تتبدد الرواية تحت موجات الضوء الساطع، تتلاشى الشخصيات جميعا، إلا زينة بنت زينات، كانت الوحيدة التي تتألق تحت الأضواء، ربما لأنها الوحيدة التي تملك الجسد وأي جسد؟ جسدها كان يضم أرواح الآلهة والشياطين معا، تكاد تشبه الآلهة القديمة الكبرى، ربة الحياة والموت، ربة الفسق والفضيلة، العاهرة القديسة العذراء، تصاعدت فوق قوانين الأرض والسماء، ولم يعد لها إله إلا نفسها.
فوق خشبة المسرح كانت تقف بقامتها الطويلة الممشوقة، زينة بنت زينات، مقلتاها الكبيرتان متوهجتان، مملوءتان بالضوء، ترتفعان فوق الرءوس. القاعة مكتظة بالرجال والنساء والشباب والأطفال، أولاد وبنات العائلات، وأولاد وبنات الشوارع، تدور عيناها على الوجوه، تفتش عن وجه أمها زينات، تراها جالسة في الصفوف الخلفية مع الخادمات والأطفال اللقطاء، تهبط من فوق المنصة وتسير نحو أمها، تمسك يدها، وتسير بها إلى الصف الأمامي، تجلسها بجوار الوزراء والرؤساء، بجوار الأدباء والأديبات والحاصلين والحاصلات على جوائز الأدب والعلم والإيمان. تجلس أمها زينات في الصف الأول، يرتفع رأس أمها فوق الرءوس، من حولها فرقة مريم من أطفال الشوارع، البنات والأولاد، تقودهم أبلة مريم إلى خشبة المسرح، يقفون حول زينة بنت زينات، ترقص وتغني أغنيتها الجديدة، كتبت أبياتها في الليل قبل أن يطلع الفجر.
منذ طفولتها في الشارع كانت الموسيقى تسري في جسدها مع أبيات الشعر. في الهواء الطلق تحت أشعة الشمس كانت تغني وترقص على الإيقاع، يرقص معها الأطفال البنات والأولاد، يولدون على الرصيف تحت قطرات الندى، تجففهم أشعة الشمس والهواء الطلق، لم يعرفوا الانحباس وراء الجدران الأربعة، تحت سلطة الأب والأم، لم يعرفوا نار الآخرة ولا جنة عدن، يدبون بأقدامهم الصغيرة الحافية وهي تعزف اللحن، تغني لهم في الليل حتى يغلبهم النوم، ينادونها ماما زينة بنت زينات. تسري كلمة ماما في أذنيها كالموسيقى، تنادي أمها ماما زينات، تأخذها أمها في حضنها طوال الليل. في الصباح تسير إلى المدرسة مع البنات، يكتبن اسمها فوق المراحيض، زينة بنت زنى، ترفع أبلة مريم أصابعها الطويلة الرشيقة لتراها كل البنات، تقول بصوتها العالي الذي يرد في الكون: أصابعها خلقت للموسيقى، زينة بنت زينات موهوبة، ليس لها مثيل بين البنات والأولاد.
تتوهج المقلتان الكبيرتان بالبريق، يغزوهما الضوء بسرعة اللهب، ترمقهما عيون البنات بإعجاب وحسد خاصة مجيدة الخرتيتي، صديقتها الوحيدة بين التلميذات، تنجذب نحوهما بقوة الإعجاب والحسد، وقوة أخرى مجهولة تكاد تشبه قوة الدم، ملامحها تشبهها في المرآة، وملامح أمها بدور الدامهيري مع الاختلاف.
ورثت مجيدة عن أمها قصير القامة المربعة، والأصابع البضة القصيرة الطرية ، تتلوى فوق البيانو كأنها من العجين، كأنما أصابع من اللحم دون عظام. ورثت مجيدة عن أبيها زكريا الخرتيتي الرغبة في المجد عن طريق الكتابة، دون رغبة في الكتابة.
العائلتان الكريمتان الخرتيتي والدامهيري لا تتخلفان عن مشاهدة الفنانة زينة بنت زينات. أصبحت زينة بنت زينات فنانة الجماهير المقهورة في القاهرة، المدينة الكبيرة الممدودة بين ضفتي النيل من الصحراء الشرقية إلى الصحراء الغربية، من الدلتا الخضراء إلى الصحارى الصفراء، تزحف الرمال إلى الخضرة لتأكلها، ترتفع الجدران من الطوب والأسمنت فوق المزارع والغيطان. تكتسح الشوارع الأسفلت الخضرة وسنابل القمح، تدوس حوافر البوليس والعجلات الكاوتش نوارات القطن البيضاء. يكف الأولاد والبنات عن الغناء: نورت يا قطن النيل، يا حلاوة عليك يا جميل. تحولت شجيرات القطن إلى أعواد البرسيم تأكله البهائم، نمت العمارات بالحديد المسلح على ضفتي النيل، أصبح النهر كالتمساح الهزيل المريض، حبيسا بين الجدران والأعمدة والقضبان الحديد، بيوت وشقق مثل علب الصفيح في العمارات الحديثة، وكنائس وجوامع تتكاثر مثلما تتكاثر الأرانب، وأقواس النصر مكتوب عليها اسم الله والمسيح والرسول محمد، والسيد الرئيس، وحوار وأزقة مسدودة بصفائح القمامة، ومياه المجاري تجري كالأنهر بعد أن جفت مياه النهر، وبراز كلاب وقطط شاردة في الشوارع، وثلاثة ملايين طفل وطفلة يعيشون فوق الأرصفة دون أب.
Halaman tidak diketahui