وخرجت عائشة لمساعدته، وجعلت كاثي ترقبهما وهي تتأمل معاملته للصغيرات. كان من العسير وصف ذلك؛ إذ لم يكن من الآباء الذين يسرفون في إبداء الحب لأطفالهم، ومع ذلك لم يعترض يوما على تواثبهن فوقه ولا على الإمساك به. كان حازما واثقا بنفسه، ولكنه كان يجد في ذلك التسرية الكافية فيتيح لهن «المساحة» التي يطلبنها، ويجد في نفسه من المرونة ما يكفي لقيامهن باستغلاله إذا دعت الحاجة إلى ذلك، بل إنه حتى إذا تكدر من أمر ما، فإنه يخفي الكدر خلف قناع عينيه بلونهما الأخضر العسلي وأهدابهما الطويلة. وعندما قابل كاثي أول مرة كان يكبرها بثلاثة عشر عاما، ومن ثم لم يكن مرشحا فورا للزواج منها، ولكن هاتين العينين اللتين كانتا تشعان ذلك الضوء الغريب استولتا عليها. كانتا حافلتين بالأحلام، ولكنهما ثاقبتا البصر أيضا، قادرتان على التقدير الصائب ؛ كانتا عيني مقاول ناجح. كان يلقي نظرة على مبنى أخنى عليه الدهر ويستطيع أن يرى بعين خياله فورا ما يمكن أن يتحول إليه، وإلى جانب ذلك يحدد استنادا على معرفته العملية التكاليف المطلوبة والزمن اللازم لإجراء الإصلاحات.
وقامت كاثي بإحكام الحجاب الذي تلبسه، وهي تنظر في زجاج النافذة الأمامية، فأدخلت الشعرات الخارجة منه - وكانت هذه عادة تلقائية - وهي ترقب زيتون أثناء انطلاقه بالسيارة من مدخل المنزل إلى الشارع، ومن خلفه سحابة رمادية تتلوى في الجو، وقالت في نفسها لقد آن الأوان لشراء شاحنة جديدة. كانت الشاحنة التي يملكانها تشبه دابة بيضاء متهالكة، طالت بها المعاناة ولكن يعتمد عليها، وقد غصت بالسلالم والأخشاب، وتصدر قعقعة بسبب ما تناثر هنا وهناك من مسامير لولبية وفراجين، وعلى جانب الشاحنة يعلو رمز الشركة الذي لا يختلف من مكان لمكان، وتحته الاسم الرسمي «شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء»، وأما الرمز فكان فرجون طلاء أسطواني الشكل مرتكنا إلى ذيل قوس قزح، كان الرمز مبتذلا ولا شك ولكنه كان يصعب نسيانه، فكان كل من في المدينة يعرفه؛ إذ كان يظهر فوق محطات الأوتوبيس، ولافتات المتنزهات وأرائكها، وكان شائعا في مدينة نيو أورلينز شيوع أشجار البلوط ونبات السرخس، ولكنه في البداية لم يكن بشير خير على الإطلاق.
لم يكن زيتون يدري عندما وضع تصميم ذلك الرمز للمرة الأولى أن لافتة تحمل رسما لقوس قزح عليها يمكن أن تعني أي شيء لأي شخص، باستثناء رمزية الألوان والصبغات المتعددة التي يستطيع العملاء أن يختاروا ما يشاءون منها، ولكن سرعان ما أصبح يدرك هو وكاثي دلالة ذلك الرمز المضمرة.
الواقع أنهما ما إن وضعا ذلك الرمز حتى بدآ يتلقيان مكالمات من أزواج من ذوي الميول الجنسية المثلية، ولم يكن في ذلك بأس على الإطلاق؛ إذ يبشر بازدهار العمل، ولكنهما لاحظا في الوقت نفسه أن بعض من يطلبونهما لأداء العمل كانوا يرفضون التعامل مع شركة زيتون للمقاولات المعمارية والطلاء بمجرد وصول الشاحنة إلى منازلهم. كما بدأ بعض العمال يتركون العمل بالشركة ظانين أن العمل بها سوف يؤدي إلى تصور أنهم من ذوي الميول المثلية، أو أن الشركة كانت تقتصر بصورة ما على تشغيل ذوي الميول المثلية.
وعندما أدرك زيتون وكاثي أخيرا الصلة بين قوس قزح وقوة دلالة ذلك الرمز، ناقشا الأمر مناقشة جادة، وتساءلت كاثي إن كان زوجها يريد أن يغير تصميم الرمز حتى يتحاشى إساءة تفسيره؛ إذ لم يكن لديه أصدقاء أو أقارب مثليون.
ولكن زيتون لم يبد أدنى اهتمام بالتغيير، قائلا إن ذلك يتكلف أموالا طائلة، بعد أن أعد ما يقرب من عشرين لافتة، ناهيك عن البطاقات التجارية والأدوات الكتابية التي تحمل ذلك الرمز نفسه، أضف إلى ذلك أن جميع عملائهما الجدد كانوا يدفعون فواتيرهم. لم تكن المسألة تزيد في بساطتها على ذلك.
وقال زيتون ضاحكا: «تأملي الأمر جيدا؛ نحن زوجان مسلمان ندير شركة للطلاء في لويزيانا، وليس من المستحسن تنفير العملاء.» فإذا كان البعض سوف يصعب عليه قبول قوس قزح، فلا بد أن يصعب عليه قبول الإسلام.
وهكذا استمر قوس قزح يشغل مكانه في رمز الشركة.
توقفت شاحنة زيتون في شارع إيرهارت، وإن كان جانب من ذهن الرجل ما زال في جبلة. كان كلما اعتادته هذه الخواطر الصباحية فتذكر طفولته، قضى فترة ما في التساؤل عن أحوال أهله جميعا في سوريا، عن كل إخوته وأخواته وأقاربه المنتشرين في كل مكان على الساحل، وعن غيرهم الذين رحلوا من هذا العالم من وقت طويل. كانت والدته قد توفيت بعد سنوات قليلة من رحيل والده، كما فقد أخا يعتز كثيرا به واسمه محمد في مقتبل عمره، ولكن باقي أشقائه الذين كانوا لا يزالون في سوريا، وإسبانيا، والمملكة العربية السعودية كانوا بخير حال، بل كانت أحوالهم مزدهرة بصورة فذة.
كانت عشيرة زيتون ذات منجزات رفيعة؛ إذ تحفل بالأطباء، ومديري المدارس، وكبار ضباط الجيش، ورجال الأعمال، ولكل منهم غرام مشبوب بالبحر؛ إذ نشأ الجميع وترعرعوا في منزل حجري ضخم على ساحل البحر المتوسط، ولم يبتعد أحد منهم كثيرا عن البحر. وكتب زيتون في مفكرته إشارة إلى ضرورة الاتصال بأهله في ذلك اليوم. كان يولد في كل يوم أطفال جدد، بحيث لم تنقطع الأخبار قط. لم يكن عليه إلا أن يتصل بأحد إخوته أو أخواته - وكان سبعة منهم لا يزالون في سوريا - حتى يحيط بكل ما يريد أن يعرفه.
Halaman tidak diketahui