وما كان ليلحظ ذلك عليه أحد وقد عرف الناس عنه دائما كل ما يطلب من مثله: الجد والاستقامة والدين. حقيقة إنه لم يكن يصلي ولكن ذلك لا يدخل في التقدير العام لأولاد المدارس.
لكن الأيام ينسخ بعضها بعضا، والغد يحجب الأمس بأكثف الحجب. بذا راجع حامد سكونه الأول المسدول على حياته يتخطى تحت ثوبه الرقيق من كل يوم لغده يين أحلام وآمال وخيالات لا حد لها. ولم يبق أخيرا ما يضايقه إلا الليل وسواده الكالح الديجوري وسكونه العميق الأخرس فكان دائم الإحساس بثقل ظل ما يحيط به؛ إن الظلمة العابسة أو الحيطان أو السقف أو السرير أو ما سوى ذلك مما ينغص عليه أحلامه وأفكاره.
ثم لم يطب له إلا أن يرجع إلى تلك الحياة الطبيعية الحلوة، وصار ينام عند مزرعة من مزارع القطن مرتفعة أرضها لا يصعد إليها ماء الراحة إلا نادرا فتسقى بطنبور من طنابير البهائم. رجع وليل الصيف دائما هو ذلك الليل اللذيذ ذو النسيم العطر والنجوم اللامعة والبدر في زهوته والترعة الصغيرة إلى جانبه يزحم فيها الماء بعضه بعضا ويعكس نور الساهر من آباد الآباد. واستعاد بذلك عهده القريب وإن لم يتمتع بزن التابوت فقد بقي له بدلا منه رج الطنبور تسمعه ما دمت إلى جانبه، فإن أنت ابتعدت قليلا غاب عنك وخرس صوت الليل ولم يبق لك فيه من أنيس.
فإذا ما تنفس الصبح رجع إلى أهله بعض ساعة ثم راح إلى الفتيات في خف الرز يتبعهن، وكأن له من وراء تلك الزرعة مغنما. وبعد أن انقضى نصف الغيط خفا إذا أخت زينب من بين العاملات، تقول إنها لم تحضر من قبل لأنها كانت مشتغلة في بناية في البلد. فلما كان الظهر أخذها حامد إلى جانب يسألها عن أختها وحالها وهل هي مبسوطة في عيشتها وحياتها الجديدة، فتذكرت الفتاة أختها والأيام التي كانت تقضيها معها جنبا لجنب في مثل تلك الساعة من النهار وتأخذان غداءهما معا ثم الوحدة التي هي فيها اليوم وكيف تخرج من الدار منفردة، فعراها هم وأسفت على نفسها وعلى الماضي اللذيذ الفائت.
أما هو فاستعاد ذكرى الساعات الحلوة التي قضاها مع تلك الفتاة البديعة التكوين، وراجعه الأسى من أجلها. كم كان لقلبها من التعلق به! وكم كان يحبها! إن ذلك اليوم البعيد صار هناك في ظلمات الفناء، ساعة جلسا إلى جانب الطريق متعانقين، ليوم خالد الذكر دائم الأثر، وليلة رآها حزينة فأصابه القلق والهم من أجلها! يا ترى ما حالها اليوم وما ذكره عندها؟
كم لهاتيك الريفيات المستوحشات تحت سمائهن الرائقة وبين تلك الآفاق الواسعة من الزروع الخضراء النضرة من البهاء والجلال! وكم من سحر للجميلة منهن مفتولة الجسم بارزة النهدين ثابتة الخطى يتهادى جسمها مائجا في مشيتها ويلعب الهواء بثوبها الأسود الصافي، وكم تكن من معنى بديع! ثم هن ربات تلك السذاجة الفطرية الحلوة الطعم تعطيهن مع قوتهن جمالا وتجعل من سذاجتهن رقة وظرفا.
كذب تلك الحياة الجد التي يقولون عنها حياة الفضيلة.. هي الموت لا مفر منه يأتينا أول ما نتذوق طعم العيش ويجعلنا نصدق أن الوجود فظيع خير ما نعمل فيه أن نتبتل مبتعدين عنه. ما أنا على ما نشأت عليه؟ وما تلك الحياة التي أقضي إلا حياة راهب طلق الدنيا وطلقته، ثم أدعي مع ذلك أني أتمتع بالعيش ومسراته، بتلك التي يسمونها لذائذ طاهرة.
ترى كيف أنت الساعة يا زينب؟ أتستقبلين الغد مستبشرة به فرحة لمقدمه ويضع زوجك مع الشمس قبلة على باسم ثغرك، أم أنتما تعيشان تلك الحياة الباهتة المتشابهة حياة الزوجية؟ ألا إني لأخشى أن تكوني محزونة بين آلام وشقاء.
أيام قضيناها في أحلام وملذات وإن حرمنا من أحسنها تبتلنا. ألا تزال عيناك تحوي ذلك السحر الذي عرفته فيهما، وابتسامتك بين الموجودات الضاحكة تزيد صاحبك سرورا وسعادة؟!
يالزوجها من فرح سعيد! هو وحده المتمتع بذلك الكون البديع حيث كل شيء جميل، ويضيف إلى سروره ولذته سرورا ولذة..! هل من مرة أخرى أرى فيها زينب وأعانقها وأقبلها فأعيد حلم الماضي الذي دخل دولة الفناء؟!
Halaman tidak diketahui