أمام كل ذلك تثاءب حامد تثاؤبا طويلا دمعت معه عيناه اللتان لا يزال بهما أثر النوم، فأخذ حصاة حذف بها الثور، ثم تمطى مكانه من جديد.
وعاد ذلك الزن المتشابه المتماوت يحيي شيئا من هذا السكون والموت، والماء ينصب في الحوض يلمع في الظلمة أمام عين المتناوم من غير نوم، والسماء تزداد عبوسا، والنجوم تنظر في لمعانها بعيون ثابتة، والأشباح تزداد تميزا، والليل يقدم دائما.
جاءت لحامد في ذلك الوقت كل الأحلام الفظيعة التي يجيء بها هذا الموقف لمثله، أليس من الممكن أن يفاجئه في هاته الوحدة بعض الذئاب فيناوئه، وينغص عليه سكونه؟ ثم إن جاء شيء من هذا أفيمكن أن يفترس إحدى البهائم التي عنده؟.. وماذا يعمل الآن للتحفظ من كل هذا؟ لا شيء في الإمكان عمله.
استمرت معه تلك الأفكار مدة ظهرت له طويلة لا يعرف مقدار طولها، وهو يجاهد ما استطاع لطردها، ويشجع نفسه. فلما طال به المقام ورأى أن علقة الثور استحقت، وليس هناك من يغير عنه، قام هو لتلك العملية البسيطة، وسار حتى وصل «الطوالة» ليجيء بالثور الثاني فإذا شبح فيها، إذا نائم ذاهب في نومه قد غطى وجهه بمنديل، إذا العامل الذي معه استرق لحظة ليريح رأسه فيها، ولم يجد سريرا أمهد ولا مكانا أخفى وأبعد عن الرجل من الطوالة ما دام لا يريد أن يضايق النائم في العش.
أيقظه حامد بيد خفيفة، فسأله صاحبه: هل أخذ عشاءه بعد؟ إذ جيء به من البلد وهو هناك في الركن.. لكن حامد كان مشتغلا عن هذا بما هو فيه من أحلام فظيعة وما يبصر أمام عينه من أرواح خبيثة، فلما وجد ثانيا يؤنسه تبدد ذلك كله وراح يتناول طعامه بعد أن دعا الآخر ليأخذ لقمة معه.
وبعد العشاء ذهب ثانية إلى نومه غير مستطيع أن يثبت أمام ذلك النسيم اللذيذ العذب يدخل إلى القلب والنفس فيحملهما إلى غير عالمنا، ويترك الإنسان سكران خادرا. وبقي ممتعا بتلك الراحة الكاملة تحت سقف العش الصغير أقيم له حائطان في جانبي الشمس، وترك الشمال وما حاذاه مفتوحين إلى الخلاء الواسع العظيم. وبقي ممتعا بتلك الراحة التي نروح فيها بكلنا ونغيب معها عن الضجات مهما عظمت حين نكون منهوكين لاغبين، وأي لغوب أكثر من معاناة الشمس المحرقة تشوي الجلود ثم الساعة المخيفة التي مرت به واقشعر لها بدنه.
فلما نال حظه الكامل من النوم استيقظ رائق البال منشرحا، وقام فجلس إلى جانب التابوت الدائم الزن تحيط به الظلمة التي تغطي كل شيء، وخيمة الليل مبذورة فيها النجوم لا تزال بلونها الذي تركها به ساعة العشاء. وبدأ حديثه مع العامل الواضع «بشته»
1
فوق رأسه المغمض عينه يسارق النوم وتأخذه سنة يبقى فيها ما دام الثور دائرا، فإذا هو وقف طارت سنته ونادى به أن يسير، ثم رجع لها من جديد. بدأ معه حديثا استمر بضع دقائق، ثم راح العامل في دنيا غير الدنيا، وإن بقي أحيانا يؤمن على قول حامد ب (هه) ينطقها من غير ما علم ولا إدراك.
والسماء تلمع بكواكبها قد ابتدأت «تبهت» لمشرق القمر الذي ظهر نصفه ناحلا متورد اللون كأنه خجل من تأخره، ثم تجلى رويدا رويدا، وانجلت طلعته فبعث على البسيطة بشيء من شبه النور لمعت تحته المزروعات القريبة بعد أن كانت سوداء قاتمة، والنسيم يتهادى في الفضاء الهائل فتنام تحته النباتات سكرى بلذاته وبالماء يجري تحتها، والحيوان الدائر في التابوت يستمر بلا انقطاع ويدع لصاحبه الراحة في سنته. وتبقى هذه الموسيقى المتشابهة التي تملأ آذان الليل تتبعه في مسيره ودوراته. وحامد في صمته مستأنس بكل تلك الموجودات يتلفت يمنة ويسرة، فيرى الآفاق القريبة والترعة قد انطرح على مائها النور الجديد تتقلب موجاته الضئيلة سائرة مع التيار. •••
Halaman tidak diketahui