وأمسى الليل وجاءت ساعة النوم، واختلى بها حسن في غرفتهما، فجعل يحادثها ويضاحكها، فلا ترد عليه إلا بكلمات معدودة. وفاتت مدة على هذا والمصباح في الركن يضيء المكان بنور قليل تتميز فيه الأشياء والأشخاص، وتترك وراءها خيالات متعددة، وفي الركن الثاني السحارة محملة بهدومها تجعل ركنها دائم الظلمة إن بالليل أو في النهار، فلما فرغ صبره من سكونها وما عليها من علامات الجد. قال: انت يا بت مبوزه كده ليه؟
وارتمى عليها بكله، وجرها نحوه، ووضع رأسها على ركبته، ومال يقبلها! وجعل يدللها ويلاطفها، ثم أجلسها إلى جانبه، وضمها إليه، وهي في كل ذلك مستسلمة أعطته زمامها مطيعة كل حركاته لا تعارضه في كل شيء ولا تتمنع عليه، فإن هو تركها لنفسها رجعت لذلك السكون الذي كانت فيه، وبقيت في ذلك التبلد الذي ينتابنا حين نفقد الثقة بذي سلطان علينا. فانقلب حاله هو الآخر مرة واحدة وعلاه دهش واستغراب مما قد أصابها.
مرت الأيام مسرعة بعد ذلك وكلها تحمل لزينب في طياتها آلاما ومخاوف شتى، وهي لا تنتظر في الغد إلا وجها كاشرا عبوسا، زوجها خارج إلى عمله من غير تحية يلقي بها إليها، وأخواته يسرن معها فتحس كأنهن يردن استراق قلبها وما يدب في صدرها، وأمه تكلفها بشيء فتظن أنها إنما فعلت ذلك لإرهاقها، وخليل الرجل الطيب يرجع من الجامع ينادي لطعامه ثم يعاود النداء إن أبطأ فتحسب في ذلك إيلاما لها وتنغيصا لعيشتها. وهكذا صارت ترى في كل موجود أنه عدوها الدائب للانتقام منها.
والأيام غريبة الشأن تضيف للمصاب آلاما على آلامه، ولا تدع له يوما من غير أن تزيد في اعتقاده بنحس طالعه.
نسيت زينب من جراء أساها ما كان يعاودها من حب مقابلة إبراهيم، ولم يبق لها إلا أن تفكر في ذلك البلاء المحيط بها وترمي به السماء على رأسها من الويل، وجعلها ذلك أشد حيرة في أمرها، وداخلها من الحزن العميق ما رسم على جبينها سيما اليأس، وصارت تذهب في أحلام سوداء الساعات الطوال، لا تحس بما يحيط بها، ولا تنتبه إلى شيء من أمرها. فلما كان في بعض الأيام وقد استيقظت مع الفجر لترى أمر بيتها، وأخذت جرتها إلى الموردة وظلمة السماء لم «تبهت» إلا قليلا، وتسللت إلى طريقها وحيدة لم تمس السكة قبلها قدم، وسارت بين المزارع لا تزال نائمة نحت غطاء من الطل والسواد الذي يغادرها رويدا رويدا كلما تقدمت هي إلى غايتها، ووصلت إلى الترعة المترعة بالماء أيام البطالة يتقلب بعضه فوق بعض، ويحرك منه النسيم موجات صغيرة أحيانا، والشجر الكبير قائم على بريها تنسرق الظلمة من بين أوراقه لتترك مكانها النور الوليد، هنالك غسلت الآنية التي معها، ثم ملأتها وأوقفتها على الشط، وارتكنت على الشجرة تنتظر أول قادم لتسأله أن يعين عليها. ولم تمكث طويلا حتى مر سار أهدى تحيته وهو مسرع، ثم آخر عليه علامات الاستعجال نادى هو الآخر صباح الخير، وثالث عدى القنطرة وعليه «بشته» لم يقل شيئا. ولكن أين هي تلك المدة لتنادي بواحد منهم؟ أو هي غلبها النعاس فلم توقظها تحيات السارحين؟ أم كسلانة تريد أن تبقى مكانها حتى حين؟ لا هذا ولا ذاك، ولكنها سارحة في لجة بعيدة القرار، راحلة عن هذا الكون إلى كون ثان تلتمس فيه ماضيها القريب مجسما ومضافا إليه ما تحمل روحها الساذجة من الويلات والأهوال.
صلى حسن الفجر وخرج قاصدا عمله، فمر بها وهي في ذلك الذهول، فسألها ماذا تنتظر؟ ثم أعانها بعد أن علم أنها غير منتظرة شيئا، ورجعت إلى الدار والأشياء قد بدأت تتميز، والسكة يعمرها السارحون والرائحات للملية. والنهار يطارد الليل العنيد لا يفيده عناده تلك الساعة شيئا فيطرده ويأخذ مكانه رويدا رويدا: ثم رجعت لدورها الثاني وقد «بهت» الشرق مبشرا بإلاهة النار والنور باعثا على مجاورات الأفق قبلة الصباح. وكلما تقدمت هي في خطواتها استضاءت السماء، ثم بزغ القرص في لونه الأرجواني الذي ودع به البسيطة في أمسه الدابر متهاديا يتسلق العرش العظيم ويرسل على المزارع الهائلة التي تحيط به من كل صوب جلبابا جديدا يظهر فيه بهاؤها ورونقها، فغيطان القطن تزهو بخضرتها وزهرها الذي ينضد بساطها السندسي الهائل، وأراضي الغلة في لونها الذهبي البديع اللامع تجعل في الفضاء دفقات النور تزداد سطوعا كلما ارتقت الشمس في دارتها، والحصيد بشقوقه الواسعة مبهوت أن يرى نفسه أجرد بعد أن كان بالأمس موطن النبات الجميل، وانتظم على الطريق سلك طويل من الأشباح السوداء تعلوها مخروطات الفخار وهن جميعا يسرعن وعليهن سيما الهدوء والسكينة وجسومهن المصقولة تنساب في جو الصبح الهادئ الذي يموج فيه النسيم، فيبعث إلى رؤوسهن النائمة عالما كبيرا من خيالات لا تنتهي. فإذا وصلن إلى الموردة غسلن جراتهن فملأنها ثم نزلن بعد ذلك ليغسلن أرجلهن، فيكشفن عن سيقان قوية بديعة يخالط لونها الأسمر شيء من التورد وهي ملساء ناعمة.. وهن في حركاتهن وحديثهن ومذاكراتهن أخبار الليل والأمس أقرب إلى الكسالى الراتعات في سعة سعادتهن، منهن العاملات الفقيرات. وهل على تلك الأرض الغنية الكريمة، أرض مصر، من فقيرة يؤلمها فقرها؟
وهكذا كانت زينب كل صباح تستعيد أمام ذاكرتها كل الحوادث التي انتابتها أخيرا فتتألم ويزيدها كل ما حولها ألما.
ثم بدت علامات ذلك كله عليها، ونم وجهها عما يداخل نفسها، وأصبحت تلك الزهرة التي كانت تجلوها تذبل قليلا قليلا، وثغرها الباسم يخبر بابتسامته عن الاستهزاء بالحياة، وتنظر من تحت جفونها الناعسة نظرة المفجوع إلى الناس والأشياء، وجبينها ذاهل مستغرق في أحلامه.
فلما رأى حسن ذلك منها عرته الحيرة واشتد به الألم.
زوجان يقطعان معا طريق الحياة المخوف، أحدهما تتقاذفه الأنواء وتلعب به الريح ويعاوده اليأس والأمل، والآخر متعلق به محس معه مشرد البال والخاطر لكل ما يصيبه.
Halaman tidak diketahui