وكانت زينب إذا راجعها أمر ذلك الخبر قابلته بصبر، وأملت أن يكون في الغد ما يفرج همها أو يزيل كربتها.. أو لعل الأيام التي فجعتها بعد هناءتها وأشقتها بعد سعادتها، ترد لها ما حرمتها إياه، ويعود لها من الصفاء ما يلذ معه طعم العيش.
وحامد كثير الذكر لصاحبته إن وجد الوحدة والخلوة، قانع بالإخوان كلما اجتمع بهم، يشتد به الهيام أحيانا فيحمله إلى الفضاء في الساعات الصامتة حين يتنفس الصبح وتطلع الشمس تتهادى من مرقدها، ثم يعاوده السلوان فيه أياما.
وكل شيء ينمو سريعا، ولم تكن إلا أيام معدودات حتى أصبحت الأرض كلها إلا قليلا مغطاة بالقطن والذرة، وكلاهما عال يكاد يختفي السائر بين أشجاره وعيدانه.
وكلما تقدم الصيف في أيامه تقدمت هاته المزروعات في نضجها، وأحس الفلاح بالسرور يدخل إلى نفسه، وإن كان منهم من يرى في ذلك ما يزيد همه، ويكثر من شجنه، حين يفكر في الوسيلة التي يدفع بها قسط الدين الذي عليه، فيجد الحال غير ما يحب، ويرى أن كل يوم يمر يقرب أجل المحضرين وزياراتهم اليومية الثقيلة، ويحضر في رأسه الطرق التي يجيء منها بالنقود. فإما أن يحتال على زوجه فيرهن أرضها على دين جديد يقترضه، أو يبيع من فدادينها القليلة ما يسد منه قسطه، أو يلجأ إلى بيع منقولاته ومنقولاتها، أو هو يخرج عن دائرة بيته ليضايق من له علاقة به من الفلاحين والمزارعين ليبتز منهم ما يستطيع أن يحصل عليه مهما قل.. وإلى جانب هؤلاء جماعة القانعين من العيش بأقل من الكفاف، الفرحين لقدوم مياه النيل تملأ الترع فتتهادى بها بين ما ينمو على جرفها من الحشائش وما يقوم على جانبها من الزرع، والسرور ملء صدور هؤلاء القوم الذين لا يتكلفون من أجل سقي مزارعهم إلا أن يرفعوا صمام فتحات الراحة فينساب الماء يغطي الأرض المشتاقة له بما يحمله من الثروة التي أرسلتها البلاد القاصية. ثم يقف ذلك القانع إلى جانب الطريق الساعات الطويلة متكئا على فأسه، يلقى الشمس دون أن يعبأ بها، وتتحرك الأكوان وهو رابض مكانه، ثابت لا يتحول إلا أن يدير الماء من فردة لفردة ، ومن مكسر لمكسر، حتى إذا صلبت الشمس في وسط السماء مال إلى ظل شجرة وأخذ غداءه تحتها، ثم تمطى في غفوة ما أقصر أمدها! ويقضي بعد الظهر مثل ما قضى قبله.
جاء الخريف، وأصبح جني القطن موضع حديث الملاك والعمال والنساء والرجال وكل سكان هاته البلاد. ولم يك إلا أيام حتى أصبحت المزارع تموج بالجماعين، وأكثرهم أطفال لا يزيدون على العاشرة من عمرهم، ولا يكادون يظهرون من خطوطهم، ويحكم الصمت عليهم جميعا، كل يريد أن يجني أكثر ما يمكن، أو يغنون أحيانا في المزارع التي يشتغلون فيها باليومية. وسط هذه المزارع وبين هؤلاء العمال تجد زينب في كل برج تجنيه ساعة تدنيها من زواجها، وتود لو ترتمي بين أحضان إبراهيم فتبوح له بمكنون حبها.
ولقد عيل صبرها، ولم يبق عندها من قوة للسكوت أمام قلب يكاد ينفطر. إن في مرأى إبراهيم الذي ترى كل ساعة وعند كل لفتاتها ما يرسل إليها قشعريرة تأخذ بكل جسمها وتتوه معها عن عملها. فإذا جاءت إلى نفسها من جديد ذكرى الزواج الذي يشيعون انقبض صدرها، وهان عليها أن تصرخ مستنجدة هذا الواقف إلى جانبها.
وإبراهيم ليس أقل منها اشتغالا، يجاهد ما استطاع لحكم نفسه، ويعمل لكتم كل ما يجول فيها، وإن غض بصره كلما مرت به، وأخيرا عزم على مفاتحتها بحبه متى استطاع الخلوة بها، فلم يعد في قوس صبره هو الآخر منزع.
ولكنه يعلم أن حسنا سيتزوجها عما قريب، وحسن صديقه وأخوه، فماذا عساه يعمل؟ لو أن في وسعه أن يأخذها لما فضل على ذلك شيئا، ولكنه يخسر حسنا في الوقت الذي يخسر فيه زينب. لو أنه ذهب إلى أبيها ليخطبها فهل يرضى هذا الأخير وهو يعلم ما أعده الحظ الطيب لابنته؟ وإن أراد أن يحافظ على المظاهر وأغلى له مهرها أفلا يساوي ذلك رده ورفضه؟ ولكن لم؟ ألا يستطيع من أجلها أن يحصل على كل مهر مطلوب؟ هل على زينب من غالية في الوجود؟ ألا إنه ليعمل من أجلها كل شيء ويأتي بكل ما يطلبه أبوها.. إنه يبيع جاموستهم، ثم يقترض ما يقوم بسداده من مرتبه في عام أو عامين.. إنه يعمل كل شيء آخر غير هذا.. إنه يسرق إن أحوجت الحال.
نعم، لا بد أن يذهب إلى أبيها ويطلبها منه!.. يا كرم السماء. كم تكون الحياة إلى جوارها لذيذة طيبة! وكم يكون العيش ناعما! وكلما جلست إلى جانبه في دارهم وتحادثا في أمر الأرض التي يستأجرها من السيد محمود ويزرعها هو وهي أفلا يكونان مسرورين معا أكبر السرور، سعيدين أكبر السعادة؟
أصبح الغيط شقين؛ فالذي جمعت غلته غبرة قد اسود وجهه، أما الآخر فبقي تتوج هامته الكبيرة أبراجه البيضاء الناصعة.
Halaman tidak diketahui