بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله حصل الخلاف المعروف بين الصحابة. وقد كان الخلاف في بداية أمره في المرجعيات والقيادات. وكان الخلاف بين المرجعية السياسية للمستحق من أهل بيت رسول الله، المتمثلة آنذاك في الإمام علي ، وبين مرجعية غيره. والناظر لطبيعة الخلاف كما ابتدأ قد لا يتوقع أن يؤدي إلى خلافات كبيرة في الدين، ما دام الأمر يقتصر على السياسة والقيادة. إلا أن إقصاء الإمام علي عن القيادة السياسية أنتج: أولا: إقصاؤه عن المرجعية الدينية في وقت كان المسلمون أحوج ما يحتاجون إلى من يعرف أمور دينهم. هذا الإقصاء ترك فراغا في القيادة الدينية، تم ملؤه بجماعة من الصحابة والتابعين حصل بسببها الخلاف حول أمور الدين. وقد قلل هذا الإقصاء من نظرة الناس آنذاك إلى قيمة الدور الذي يمكن أن يقوم به الإمام علي
، فحتى عندما وصل إلى الخلافة كانت النفوس قد نفرت عنه، أو جهلت قدره. ثانيا: إن إقصاء الإمام علي عن القيادة السياسية أفرز المناخ المناسب لبروز القيادة السياسية الأموية. هذه القيادة رأت في العقائد وسيلة جيدة لتبرير أعمالها، وإضفاء الشرعية على وجودها في قمة الهرم السياسي الإسلامي؛ فأثرت هذه الدولة على الدين وذلك من خلال تشجيع جماعات توافق هواها ، وإعلاء مكانتهم الدينية بين الناس. وقد قتلت الدولة الأموية أو نفت كل من يختلف معها في هذا الأمر. إن قسوة الأمويين مع من خالفهم في العقيدة جهارا لم تكن مجرد قسوة سياسية. لقد كانت المجاهرة بالخلاف تهديدا لمشروعهم البعيد والذي لا يمكنهم التفريط فيه، وخصوصا فيما أشاعوه بين الناس من وجوب طاعة الحاكم الظالم المتسلط على البلاد والعباد. وقد أكدوا هذا الرأي من خلال دعوتهم الحثيثة إلى الإيمان بالجبر. والخلاصة إن إقصاء الإمام علي، وإقصاء أهل بيته فيما بعد، عن أمور المرجعية الدينية قد أدى إلى بروز مرجعيات دينية أخرى إما مسيسة تخدم الأهواء الأموية؛ وإما نصف متعلمة أو جاهلة لعبت دورا سلبيا على المعرفة الدينية بغير سوء قصد. لقد كان في تقليل شأن أهل البيت في تلك الفترة الدور الجوهري في القضاء على المعرفة الدينية الصحيحة، وعلى انتشار المعارف الدينية المنحرفة والمخطئة، مثل التجسيم، والجبر، والإرجاء، ووجوب طاعة أولى الأمر الظلمة. وكما سبق ذكره فإن جماعة قد التزمت للقيادة السياسية للإمام علي ومن ثم للقيادة السياسية والفكرية لبنيه عندما ظهر الخلاف الديني؛ وهذه الجماعة هي الجذور الأولى للزيدية، وقد عرفت آنذاك بالشيعة. أما المجموعات التي لم تلتزم به فنشأ عنها مختلف المذاهب والتيارات المعروفة. ولا بد من التأكيد هنا على أن التزام الزيدية بقول الإمام علي وقول أهل البيت في أصول الدين ليس التزام تقليد. فلا يجوز تقليد أحد في أصول الدين: التوحيد والعدل. ولكن الالتزام بهم كان يعني الأخذ عنهم. والواقع يظهر ويدل على أن ما كان عليه الإمام علي وبنوه هو الصواب. كما يجب أن نلاحظ أن التزام الكثير بالقيادة السياسية للإمام علي لم يكن يعني بالضرورة الاسترشاد بمعرفته في كل أمور الدين. ففي حياة الإمام علي نجد أن بعض قادته اتخذ من نفسه محورا، وهذا الأمر استمر في حياة بنيه. والسبب هو أن الاعتزاء إلى الإمام وبنيه أعطى لكثير من الشخصيات فرصة كبيرة للادعاء وللبروز وللانتفاع. أيضا كان للالتزام بالقيادة السياسية دوافع عملية للبعض، لا علاقة لها بالفكر والدين، أو كان يحقق مصالح شخصية. وقد أثر هذا الأمر على هوية الشيعة الفكرية، خصوصا فيما بعد. إذ كثر من يدعي الانتساب إلى التشيع، واتخذت بعض القيادات التي كانت تنتسب إليه مجموعة أفكار نسبتها للإمام علي أو لبنيه لإضفاء شرعية عليها. من هذه الادعاءات نشأ عدد من الفرق الشيعية. وقد استمر هذا الوضع حتى عصر الإمام زيد بن علي. وفي أثناء تلك الظروف بقيت مجموعة من الشيعة الخلص التي التزمت بالمنحى الفكري لأئمة أهل البيت". والذي عزز هذا هو أن الشيعة كانوا مستقلين إلى درجة ما في تنظيم أنفسهم عن أهل البيت". فهذا سليمان بن صرد الخزاعي(65ه) الذي قاد حركة التوابين للثأر من قتلة الحسين بن علي، ثم المختار، ثم ابن الأشعث، ثم الحارث بن سريج (116ه) ويقال: إنه كان خارجيا، إلا أن ضمن دعوته كان الدعوة إلى الرضا من آل محمد، وهذه الظاهرة وإن خفت بعد حركة الإمام زيد، وبروز جهاد أهل البيت، فإنها لم تنته تماما، يدل عليه أن الإمام محمد بن إبراهيم لما خرج إنما كان بدعوة وإلحاح من أبي السرايا، الذي كان له جماعة تأتمر بأمره قدمها للجهاد بين يدي الإمام محمد. في حياة الإمام زيد كانت الجماعات الشيعية متعددة الاتجاهات والأهواء، وكل جماعة تنسب ما تقوله لإمام من الأئمة الأحياء. ويظهر أن محور الخلاف بينها آنذاك هو استحقاق الإمامة. هل هو بالوراثة أم لا؟ والذين أثبتوها بالوراثة اختلفوا: هل هي في أبناء الحسين أم في أبناء محمد بن الحنفية؟ وقد افترقوا إلى جماعات متعددة بحسب اختيارهم للإمام. وفي مقابل القائلين بالوراثة كانت الجماعة التي تؤمن بمرجعية وقيادة أهل البيت، ولكن ليس بوصفها وراثة، إنما لكون الأئمة من أهل البيت اتصفوا بتميز بالغ في بيان وتوضيح المشكلات العقائدية؛ وفي حكمة سياسية وقيادية. إن قيمة أهل البيت عند أولئك الشيعة كانت منبثقة من القدر الذي قام به أئمة أهل البيت في خدمة الإسلام. لقد كانت الأمة آنذاك تمر بتحولات فكرية كبيرة وفي هذا قام أهل البيت بدورهم؛ إذ حافظوا على الإسلام كما هو. أيضا آمنت تلك المجموعة الشيعية آنذاك أن الله تعالى بلطفه وفضله قد تفضل على أهل البيت واصطفاهم وحباهم بما لم يحب غيرهم؛ وأمرنا بطاعتهم ومودتهم وتقديمهم على غيرهم. ولكنهم يؤمنون بأن الفرد من أهل البيت لا قيمة حقيقية له إلا إذا خدم الإسلام. وما نراه من احترام الزيدية لمن هم من أهل البيت نسبا، وليس على قدرهم علما وعملا، فإنما هو لاحترامهم لأهله الذين خدموا الدين.
Halaman 132