ولقد عانى العرب في فتحها شدائد وأهوالا وظلوا في حصارها ومهاجمتها أربعة عشر شهرا، يصبحونها ويمسونها بالغارة تلو الغارة حتى فتحها الله عليهم، فهالهم ما رأوه فيها من وثيق البنيان وكثرة السكان، وعظيم الحضارة والعمران، وفسيح الميادين، وعجيب الملاعب والعمد والأساطين، وغرائب المباني والقصور، ووفرة الحوانيت والأسواق والدور، وروائع المسلات والعمارات، والهياكل والكنائس والخانات.
ولما ظنوا أنها دانت لهم اتخذوا بها رابطة وشحنوها بمقاتلتهم، وعاد الفاتحون مع أميرهم عمرو بن العاص إلى داخلية البلاد، وتفرقوا في أنحائها واتخذوا الفسطاط دارا لإمارتهم. وظلت الحال على ذلك ردحا من الزمن.
فلما كانت خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه عزل عنها عمرا، واستعمل عليها بدلا منه عبد الله بن سعيد بن أبي السرح، فلم تمض على ولاية هذا أيام حتى ثارت الإسكندرية على حاميتها فقتلوها واستولوا على مرابطها، وكانوا قد كتبوا بذلك إلى ملك الروم فأرسل إليهم المقاتلة والأمداد فملكوا المدينة وخرجوا منها لقتال المسلمين والاستيلاء على الريف ثم على سائر مصر، وعند ذلك طلب المسلمون من الخليفة أن يعيد إليها عمرا؛ لأن له هيبة في صدورهم ومعرفة بحربهم، فأعاده إليها وعادت الحرب بينه وبينهم وكانت حربا شعواء كتب الله النصر فيها للمسلمين، وقد حلف عمرو لئن فتح الله مدينة الإسكندرية ليهدمن حصونها وأسوارها. فلما فتحها الله عليه بر بقسمه وسواها بالأرض، حتى لا تعود فتنتقض على المسلمين مرة أخرى ويعتصم مقاتلتها بأسوارها وحصونها.
وفي هذا الفتح الثاني استحر القتال بين عمرو والروم بالقرب من باب السدرة، فقتل منهم مقتلة عظيمة، ولما رأى القتل قد استحر فيهم أمر برفع السيف عنهم رحمة بهم، وأسس في هذا المكان مسجدا أسماه «مسجد الرحمة»، وهو المسجد المعروف الآن بمسجد العمري عند تقابل شارع أبي الدرداء بشارع الخديو الأول، وكان هذا المسجد أكبر مما هو عليه الآن كثيرا.
ثم في أثناء ولاية أحمد بن طولون على مصر عندما استقل بها في نحو سنة 265ه (878م) أحاط الإسكندرية بسور جديد؛ خوفا من غارة عسكر الخليفة عليها، ويقال إن هذا السور هو الذي بقي إلى أن دخلها الفرنسيون، كما يقال أيضا إنه تهدم وإنه بني ثانيا في أيام حكم المماليك البحرية، وإن هذا هو الذي بقي عند مجيء الحملة الفرنسية.
وإليك النصوص التي استندنا إليها في هذا الشأن:
قال ابن عبد الحكم المتوفى سنة 257ه (871م) في كتابه «فتوح مصر ص42»:
كانت الإسكندرية ثلاث مدن بعضها إلى جنب بعض - منة وهي موضع المنارة وما والاها، والإسكندرية وهي موضع قصبة الإسكندرية اليوم، ونقيطة. وكان على كل واحدة منهن سور وسور من خلف ذلك على الثلاث مدن يحيط بهن جميعا - ثم نقل عن طريف الهمذاني أنه كان على الإسكندرية سبعة حصون وسبعة خنادق. ا.ه.
وجاء في خطط المقريزي المتوفى سنة 845ه (1441م) ج1 في آخر الكلام على مدينة الإسكندرية ما نصه:
وكان بناء الإسكندرية طبقات وتحتها قناطر مقنطرة عليها دور المدينة يسير تحتها الفارس وبيده رمح لا تضيق به حتى يدور جميع تلك الآزاج والقناطر التي تحت المدينة. وقد عمل لتلك العقود والآزاج مخاريق ومتنفسات للضياء ومنافذ للهواء - إلى أن قال - وكان عليها سبعة أسوار من أنواع الحجارة المختلفة الألوان بينها خنادق، وبين كل خندق وسور فصول. ا.ه.
Halaman tidak diketahui