وواجب إيطاليا أيضا أن تعدل موقفها إزاء المسلمين، فلم تكن إيطاليا المشهورة بذوقها الفني وعبادتها للجمال بأحسن من الفرنسيين والإنجليز مع المسلمين؛ فقد ارتكبوا من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان. فمثلا زج الجنرال «جراتسياني» زعماء ليبيا في السجون، وألحق بهم من الإهانات ما لا يوصف، وألقى ببعضهم من الطيارات على بعد أربعمائة متر على مشهد من أهلهم، وقال أحد جنودهم - وقد رأى هذا المنظر: «فليأت نبيكم محمد البدوي الذي أغراكم بالجهاد لينقذكم من أيدينا.» ثم صادر سكان برقة الغربية في نقودهم ومواشيهم، وساقهم محوطين بفرسان وسيارات مصفحة، ولم يسمح لهم بالانحراف عن الطريق ولو للاستقاء. ومن حوادثهم الغريبة أن بعض الجنود الطليان دخلوا خيمة شيخ، فقابلتهم بنت له في الثانية والعشرين، أخذت تتوسل إليهم أن يبقوا عليه، والتجأت إلى أحد الضباط فلم يسمع لها، فلما رأته على هذه الحال اختطفت مسدسا وأطلقته عليه فخر صريعا، فأحاط بها الجنود، وحضر القائد فأمر بقتلها وقتل أبيها وجميع أقاربها رميا بالرصاص، حتى ضج المراسلون الصحفيون الأجانب من هذه المناظر، فقال صحفي دنمركي: «قصدت في شهر يناير سنة 1930م حدود بني غازي فأحاط بي الجنود المدججون بالسلاح والمدافع الرشاشة وأرادوا البطش بي لولا أني عرفتهم من أنا. ومع ذلك اكتفوا بسجني قيد التحقيق؛ فلما أفرجوا عني صادفت في طريقي مشهدا من أفجع المشاهد: عشرين عربيا يرسفون في القيود والأغلال، يقادون إلى المجزرة كما تقاد الأغنام حيث نصبت لهم المشانق. فشنقوا بلا محاكمة.» وقد ألف هذا الصحفي كتابا سماه «الصحراء تلتهب» ملأه بحوادث من هذا القبيل. وعلى الجملة فقد تفنن الإيطاليون في أعمال الإبادة والتشتيت. ولو سئل أي رجل: أيهما المتمدنون إيطاليا ورثة الرومان ورائدة الفن، أم أهل المغرب البدويون الذين لم يتذوقوا فنا ولا علما؟! لكان الجواب: إنها إيطاليا ولا شك! فهل يصح بعد ذلك أن تكون الحضارة مقياس الإنسانية!
وليس حال المسلمين بأسوأ من حال الوثنيين، وحتى من بعض الدول الأوروبية في نهضتها واستعدادها للرقي. فدينهم «الإسلام» لا يمنعهم مطلقا من أن يسايروا العالم، وينهضوا مع الناهضين، ويبنوا مع البانين، وإنما ساءهم الحقد والضغن مجاوبة للحقد والضغن الأوروبيين؛ فإذا عدل الأوروبيون موقفهم عدل المسلمون موقفهم أيضا جزاء وفاقا. أما زيادة الحقد من أوروبا والتنكيل بالمسلمين والمبالغة في تنفيذ الاستعمار فليس من شأنه إلا زيادة الحقد في نفوس المسلمين، وشدة المقاومة، والأخذ بوسائل الحرب لدفع الحرب ونحو ذلك، وليس في هذا أية مصلحة للطرفين، فلعل تقدم الأوروبيين في فهم الإنسانية، والإخاء والمساواة، وحرية الأديان، وحق كل أمة في حكم نفسها بنفسها يتغلب على النزعة الاستعمارية.
وأظن أن ذلك هو ما سيكون مهما بعد الزمن؛ فالعالم لا محالة سائر إلى استبدال الروح القومي الوطني البغيض الناشئ عن ضيق في الأفق وفساد في الشعور، وهو أسوأ ما أنتجته المدنية الأوروبية الحديثة بالروح الإنسانية المتسامحة الواسعة الأفق. وكل يوم تدل الدلائل على أن هذه الروح الوطنية القومية تسبب من البلاء أضعاف ما تكسب.
وكان مما أتت به المدنية الغربية النعرة القومية، فكل أمة تتعصب لجنسها، وسرت هذه الروح إلى العالم الشرقي مع المدنية الحديثة، وقد كانوا لا يعرفون إلا قسمة العالم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب، فالمسلم داره العالم الإسلامي كله، لذلك سهلت عليه الرحلات، من مثل: ابن بطوطة، وابن جبير وغيرهما، وتنقل رجال الحديث من قطر إلى قطر يجمعون ما انتثر من الحديث وكأنهم بين أهليهم، حتى كانت لعنة الوطنية التي ابتدعتها أوروبا وأسرفت فيها. والقانون الطبيعي يقتضي تدرج العالم من نظرة جزئية لا ينظر الإنسان فيها إلا إلى نفسه كالطفل في مهده، ثم يرتقي فينظر إلى عائلته، ثم يرتقي فينظر إلى قومه، ثم يرتقي فينظر إلى الإنسانية كلها، وربما كان الإنسان في هذا الطور لا ينظر إلا إلى قومه، ولما يصل من الرقي إلى حد أن ينظر إلى الإنسان كله. على أنا نرى تباشير النظرة الإنسانية في التقرب في السكك الحديدية، ونظام البريد، وكثرة المؤتمرات التي تبحث في المسائل العالمية، مما يظن أن سيكون وراءه الارتباط العالمي والنزعة الإنسانية؛ وإذ ذاك يقل الاضطراب وتتآلف القلوب.
هذه هي النزعة القومية التي أدت إلى الاستعمار، وتبعها أو كان أساسها التعصب الاقتصادي، فإن أوروبا قد ضاقت بأهلها وأعوزتهم المادة الخامة؛ فقصدوا إلى الشرق يستغلون ويأخذون منه موادهم الخامة المحتاجين إليها، ويصنعونها في مصانعهم ثم يبيعونها على الشرق، ويربحون من وراء ذلك الفرق بين المادة الخامة والمادة المصنوعة، ولذلك كانت كل أمة تستعمر أمة شرقية تضرب نطاقا عليها لاستغلالها اقتصاديا. فمصر والعراق والهند مثلا لإنجلترا تأخذ منها خاماتها وتصرف فيها سلعها ولها في ذلك المقام الأول. وفرنسا تفرض سيطرتها على بلاد المغرب وسوريا فاعلة ذلك أيضا. وربما كان من أهم أسباب الاستعمار الشئون الاقتصادية، ولذلك تحارب كل أمة مستعمرة انتشار الصناعة وتقدمها في الأمم المستعمرة، وتحاول أن تفهمها أنها أمة زراعية بحتة؛ حتى تعتمد الأمم المستعمرة على الأمم المستعمرة في صناعاتها.
وقد تفوق الأوروبيون في الأدوات الحربية والوسائل الاقتصادية معا، فكم من الفرق بين الجمل والقطر الحديدية، وبين المحراث والآلات الميكانيكية الزراعية وهكذا. فغلب الغربيون في ميدان الاقتصاد كما غلبوا في ميدان الحروب.
وأوهم الغربيون المسلمين أنهم ليسوا أهلا للصناعة، وإنما هم أهل زراعة، وفرضوا ضرائب كثيرة على المنتجات المحلية حتى يميتوها، ولكن بدأ المسلمون يقلدون الغربيين في الصناعة؛ فلما جاءت الحرب العالمية الثانية، وامتنع ورود كثير من السلع، وغلا بعضها الآخر غلوا فاحشا؛ تشجع الشرق على أن يتقدم في الصناعة ولا يزال المدى أمامهم فسيحا.
على كل حال كل ما نرجوه أن يتنبه الغرب؛ فيعدل عن النعرة الوطنية إلى الإنسانية، وينظر إلى المسلمين كما ينظر إلى غيرهم من الناس، ولكن هناك مطلبا آخر يطالب به المسلمون، وهو تكييفهم أنفسهم التكييف المناسب للعصر الحاضر.
نعم إن هناك فروقا اجتماعية كبيرة بين العالم الأوروبي والعالم الإسلامي؛ فالعالم الأوروبي يبني حياته على العلم والنتائج العلمية، والاستقلال، والحرية، والابتكار، ونحو ذلك، والعالم الإسلامي ينظم حياته على أساس الاتكال والخمول والاعتقاد الذي ساء في القضاء والقدر، ويطربه جدا سماع قصص تروى عن غني افتقر أو فقير اغتنى، وشيخ استولى ونحو ذلك. ونحن لا نريد أن يحذو المسلمون حذو الأوروبيين في كل شيء بل نريد أن يحذوا حذو الأوروبيين في العلوم والصناعات بحذافيرها من غير قيد ولا شرط، ولكن يحتفظون بروحانيتهم ونظرتهم إلى العالم نظرة غير النظرة الأوروبية. فالأوروبي ينظر إلى الطبيعة كأنها عدو يكافحه ليفشي سره، ولكن النظرة الإسلامية تنظر إلى الطبيعة على أنها صديق، وأنها من نتاج الرب الذي أنتجه.
والأوروبيون يضعون الله كما توضع الصورة الجميلة على الرف، لا دخل لها فيما يحدث حولها، والمسلمون يرون الله في كل شيء، في الأمور الدينية والدنيوية معا، فإذا باعوا أو اشتروا أو أجروا أو رهنوا راقبوا الله، وحتى في أصغر الأعمال كالاستياك والاغتسال، وعندهم أن النية الصادقة أقوم من العمل نفسه، وفي حديث رسولهم
Halaman tidak diketahui