كلمة للمؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Halaman tidak diketahui
الفصل العاشر
الخاتمة
كلمة للمؤلف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
Halaman tidak diketahui
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الخاتمة
اليتيم
اليتيم
تأليف
أحمد حافظ عوض
كلمة للمؤلف
في النصف الأخير من سنة 1898 ظهرت هذه الرواية في عالم المطبوعات العربية تحت اسم «رواية اليتيم أو ترجمة حياة شاب مصري»، بلا مقدمة أو كلمة واحدة من قلم كاتبها، الذي لم يكن إذ ذاك معروفا إلا لدى أصدقائه وأقرانه في المدرسة، ولهذا السبب لم ير أن يتهجم على مواقف المؤلفين ويتقحم على صفوف المصنفين بنشر مقدمة يقول فيها شيئا عن نفسه أو قصده، واختار أن يلقي حبل تلك الرواية التي كتبها بمداد التعليم المدرسي على غاربها؛ لتنال حظها من المكانة لدى الأدباء والقراء إما مدحا وإما قدحا، سيما وهو إذ ذاك طفل في عالم الأدب، متطفل على موائده، وما كان ليخطر بباله يوم أن فتح لروايته هذه باب الظهور في الوجود أنه سيضطر في يوم من الأيام بالرغم عنه لكتابة كلمة عنها ومقدمة لها، بل ما كان ليؤمل مع غرور الشباب في مثل ذلك السن أن تعيش روايته هذه في مثل هذا العصر، وتنفد نسخها بعد بضعة أشهر من صدورها أو أن تطبع مرة ثانية.
Halaman tidak diketahui
وسواء كان رواج «رواية اليتيم» وإقبال الناس عليها يرجع إلى أنها تستحق ذلك، أو لأنها كانت صادرة من القلب فوصلت إلى القلوب، فهو ما أتركه للمستقبل أو لحكم الغير. ولكن ما لا أنكره على القارئ أنني لولا رغبتي في بقاء أثر من آثار الشبيبة الأولى مرتديا بالرداء الذي ولد فيه وقائما بالفطرة التي وجد عليها؛ لرأيت فيها شيئا كثيرا يستوجب التغيير والتبديل، فلهذا أزفها للقراء كما ظهرت لهم أول مرة، وفي اعتقادي أنها ستبقى - ما دامت تقدر على المقاومة في معترك حياة الكتب - على ما هي عليه.
كثيرا ما سئلت عن موضوع هذه الرواية، وعما إذا كانت حقيقية أو خيالية، فكنت أجيب تارة بالتصريح وتارة بالتلميح، ولهذا رأيت أن أعيد الآن كلمة صغيرة في هذا الباب قلتها في مقدمة رواية «الحال والمآل»، وهي أنه لا يلزم أن تكون الحادثة قد وقعت لأشخاص معلومين معروفين، بل يكفي أنها كالحوادث التي تقع كل يوم، وقد تكون حدثت بعض حوادثها لأفراد مختلفين، فاجتمعت مع بعضها، ولمستها ريشة الخيال بمسحة من خطراتها؛ فتألف منها ما تراه شكلا كاملا، وأظن في ذلك ما يكفي.
وكثيرا ما انتقد على هذه الرواية بأنها صورة سوداء من الصور التي تبغض في الحياة وتسيء الظنون بها، بمعنى أنها محزنة، وأن مثل هذه الحوادث المؤلفة لا تتراكم بمثل هذا الحال على أحد، وحتى لقد طلب مني عند هذه الطبعة الثانية أن أخفف بعض سوادها، فرفضت رفضا باتا. أما عن الانتقاد ففيه بعض الحقيقة التي تختلف في تقريرها العقول، إلا أن هذه الرواية إن كانت قد أحزنت كثيرين فقد خففت في وقت تأليفها عن صدر كاتبها حملا ثقيلا، وأراحت ضميره قليلا.
لأسباب شخصية لا محل لها هنا كان كاتب هذه القصة في زمن من الأزمان محملا بصنوف الحزن وضيق الصدر، حتى صغرت في عينه الحياة، وحتى خيل له أنها لا تصفو أبدا، فلهذا نظر إلى العالم بذلك المنظار الأسود، وصبغ روايته في ذلك الوقت بهذا اللون، وربما حمل بطلها من التعاسة والشقاء شيئا كثيرا؛ لأن نفس التعيس ترتاح لتعاسة غيرها حتى ولو كان ذلك في الخيال، فلهذا كان المؤلف كلما ضاق صدره خف إلى قلمه فساقه في روايته هذه، فظهرت على هذا الحال.
ولا أحب أن أطيل الكلام فالكتابة عن شخص الإنسان فيها شيء من الأثرة والأنانية، وهو ما لا أرتاح إليه. ولولا أن ناشر مسامرات الشعب اضطرني لكتابة هذه الكلمة لبقي أمرها في طيات الضمير إلى ما شاء الله.
فأكتفي بهذا حتى تجمعني وهذه الرواية فرصة أخرى.
والسلام.
أ. حافظ عوض
المطرية في 10 صفر الخير سنة 1321
الفصل الأول
Halaman tidak diketahui
زمن الطفولة «أيام كنا والزمان مساعد»
في سنة 1302 هجرية تبتدئ قصتي، حيث كنت أبلغ إذ ذاك العاشرة من العمر، وإنني كنت في ذلك الوقت صغير السن لا أفقه ولا أعي أغلب الحوادث، غير أنني أذكر للقارئ ما يصل فكري إليه من ترجمة حياتي، التي أكتبها الآن وأنا في سن الثانية والعشرين، وإذا سمحت الظروف وعدت إلى بلادي نشرتها، وإن جاء القدر ضد مقاصدي - كما هي العادة - فلا أعدم واسطة من إرسالها لصديق صباي ورفيق شبيبتي ... وليكن في علمك أيها القارئ، أن ما أكتبه عن نفسي وقع لي بدون مبالغة أو تحريف.
ولدت في سنة 1293، وكان ميلادي بمنزل في رمل إسكندرية بالقرب من محطة «باخوص»، ولغاية ما أتذكر من الحوادث أقول: إنني كنت ألعب مع ابنة صغيرة تعادلني في السن، وهي ابنة جارنا في المنزل، الذي كان منقسما إلى مسكنين: أحدهما جهة الشرق والآخر جهة الغرب، وكان يسكن القسم الشرقي رجل من كبار المصريين، كان يأتي لنا وأنا ألعب مع ابنته فيلاطفني، وكنت أذهب معها إلى مسكنهم الذي لم يكن في الحقيقة إلا قسما من منزلنا، حيث لم يكن يفصلنا عنهم شيء، ولنا حديقة واحدة. أما والدي فكان رجلا في سن الأربعين، متوسط القامة، واسع العينين، أسود الشعر، وكنت تراه دائما ملازما للصمت، كمن يفتكر في أمر مهم، ولذلك كان لا يلعب معي كثيرا، كما يفعل جارنا مع ابنته، وكان يذهب في الصباح إلى الإسكندرية، ويعود في المساء، حيث يتناول العشاء، ويذهب للمحادثة مع جارنا، ثم يعود إلى النوم.
أما والدتي فياللأسف! تحققت أني لم أرها إلا وأنا طفل رضيع، وأما من كنت أظنها والدتي لم تكن في الحقيقة إلا مربيتي، وهي مصرية الأصل، وكان عندنا في المنزل خادم وخادمة يقومان بلوازم المطعم والملبس. أما أنا فكنت كثير اللعب مع تلك الابنة، وكنا بعض الأحيان نذهب مع والدها إلى الإسكندرية وإلى سان استفانو، حيث كنا نريض أنفسنا على شاطئ البحر ونعود إلى المنزل عند المساء مارين بين الحدائق والأزهار المجاورة للطريق. وعلى مثل هذا الحال قضيت زمن الطفولة زمن الهناء والسعادة.
هو الطفل أهنى الخلق لا يعرف الأسى
ولا يعرف البلوى ولا يعرف الهوى
ولما بلغت الثامنة من العمر شرع والدي في تربيتي، فلم يترك فرصة تمر دون أن يعلمني فيها ويرشدني إلى الفضائل والتحلي بالآداب. وأول شيء وضعه في عقلي وثبته بالإرشادات الصدق وفوائده، أذكر أنه ذات مرة قال لي: «إذا رأيت أن تخلص نفسك بالكذب هل تفعل؟» فأجبته: «نعم»، فاغتاظ مني، ولولا شفقته علي وحبه لي لأني كنت وحيده وثمرة حياته، لضربني، ولكنه وبخني، وقال: «اعلم يا ولدي، أن الكذب مهما كانت نتيجته من الخلاص، فلا بد من الوقوع في شره يوما ما، واعلم أن هذه الدنيا لا تدوم، وكلنا مائتون، ومن لم يمت صغيرا مات كبيرا، فكيف يكذب الإنسان سعيا وراء خلاص حياته وهي لا تدوم؟! أليس من شرف المبدأ وواجب الدين أن يصدق الإنسان ولو كان في الصدق فقدان روحه؟» وكم ضرب لي الأمثال! ومما أتذكر منها حكاية واشنطن محرر أمريكا، الذي لم يكذب على أبيه حين سأله: من الذي قطع شجر الكريز؟ وكان واشنطن القاطع له، بل قال بكل ثبات: «أنا يا والدي»، فاشتهر بعد ذلك بالصدق حتى صار رئيس جمهورية تلك البلاد. وكان في أثناء كلامه يزيدني من المعلومات العمومية، حتى إنني لما كنت في المدرسة كنت مشهورا بمعرفة الغرائب، وكنت مع صغر سني أعرف بعض معلومات عن الدول وقوادها وتواريخها وعن السياسة وبعض رجال السياسة، وذلك من المبادئ التي علمنيها والدي.
وكان والدي محافظا على أصول دينه، وأول شيء وضعه في ذهني أصول الدين والتمسك به، حتى إن إخواني التلامذة حين ذهبت فيما بعد إلى المدرسة كانوا يستغربون مني حينما يرونني أصلي كل وقت وأحافظ على الفرائض الدينية، ولذلك كنت محترما عند أساتذتي وعند إخواني. ثم فضلا عن تثقيف ذهني فإنه لم يمنعني عن اللعب في الحدائق مع ابنة جارنا، وكان يوصيني بالأدب معها ومع والدها والأولاد الذين نلعب معهم. ثم شرع في تعليمي القراءة والكتابة بنفسه ، وكذلك مبادئ الحساب واللغة العربية والفرنسوية. واستمر على ذلك حتى بلغت سن الثالثة عشرة، فأرسلني إلى مدرسة رأس التين الأميرية، وهذه أول مرة رأيت المدرسة والتلامذة والأساتذة، الذين اختبروني وقرروا إدخالي في السنة الثالثة من القسم الابتدائي، وكان ناظر المدرسة رجلا سليم القلب، محبا للتلامذة. وعند المساء كان يأتي خادمي فأذهب معه إلى محل تجارة والدي، التي كانت في محل يسمونه «بورصة مينا البصل»، فكنت أرى التجار وأغلبهم من الأجانب، ثم أذهب مع والدي وخادمنا إلى محطة الرمل، ونركب القطار إلى محطة باخوص، ومن ثم نذهب إلى بيتنا. وهكذا مرت السنة وجاء الامتحان وكنت من المتقدمين في الفرقة. وجاءت أيام المسامحة، ولله ما كان ألطف تلك المسامحة، التي أمضيت أغلب أوقاتها مع ابنة جارنا التي كانت تذهب إلى مدرسة بالإسكندرية وتعود بعد الظهر!
أما والدها؛ فقد سمعت عنه من والدي أنه من كبار المصريين وأغنيائهم، حر المبدأ، كريم العنصر، شريف العواطف، يساعد الفقراء والمساكين، ويحث الناس على تربية أبنائهم، ويجود بماله لتربية أولاد الفقراء لأنه يرى أن بلادنا محتاجة للتربية؛ إذ إن تقدم الأمم مرتبط بتقدم الأفراد، وكم شرع في تأسيس مدرسة خيرية لتربية أولاد الفقراء! ولكن أغنياءنا لم يساعدوه، وغاية مناهم من الدنيا كنز الأموال، حتى يخرج بعدهم أولادهم الذين يهملون تربيتهم فيفقدون ما جمعوه في بعض أيام قلائل، ومن الذي يحصل على أموال هؤلاء الأغنياء سوى باعة الخمور وأصحاب محال اللهو؟ وبذلك تتحول الثروة من البلاد وتلبث الأمة في الجهل، والذنب كل الذنب راجع على أغنيائنا وكبرائنا. وكان جارنا يحبني كما يحب ابنته، وطالما كان يتكلم معي في موضوعات شتى أدبية.
وهكذا مرت الأيام وانقضت المسامحة ما بين إسكندرية وباخوص وسان استفانو، الذي كنت أزداد محبة في الذهاب إليه. ولما جاء ميعاد افتتاح السنة المدرسية وذهبت إلى المدرسة، أخبرونا أننا سنمتحن آخر السنة لكي ننال شهادة سموها شهادة الدراسة الابتدائية، فاجتهدت في مذاكرة دروسي بكل همة ونشاط، وكان والدي يزور المدرسة ويوصي علي الأساتذة، حتى جاء يوم 25 يونيه سنة 1892 وجاء التلامذة من البلاد المجاورة كدمنهور ورشيد وطنطا، وامتحنا تحريريا، وانتظرنا ظهور النتيجة بقلوب واجفة، وكنت صغيرا لم أفقه مركزي، حتى جاء وقت ظهور النتيجة، وجاء رئيس الامتحان ونادى بأسماء التلامذة الناجحين، وذكر من ضمنهم اسمي فسررت جدا، وذهبت توا إلى والدي وأخبرته بنجاحي، فقبلني ووعدني إذا نجحت في الامتحان الشفاهي أن يهديني هدية فاخرة، وكنت أعجب من التلامذة الذين كانوا يبكون حينما لم يسمعوا أسماءهم، وكنت أتصور أنهم يخافون من آبائهم أن يضربوهم أو يهينوهم لعدم نجاحهم، ثم جاء اليوم المعين للامتحان الشفاهي فدخلنا ووجدنا لكل علم لجنة مكونة من ثلاثة أساتذة، فسألونا عن أسمائنا، وامتحنونا وأعطونا درجات تدل على نجاحنا، ثم خرجت بعد الامتحان وذهبت لوالدي وبشرته بنجاحي، ولم أدر ماذا تم حتى جاءني والدي في اليوم الثالث وأعطاني ساعة ذهبية وقال: «هذه مكافأة على اجتهادك»، وبشرني بتمام النجاح، ولم يمض شهر حتى ظهرت جريدة الوقائع المصرية، ولا تسل عن سروري حين وقع نظري على اسمي مطبوعا في الجريدة، ثم جاءني والدي وقال لي: «اعلم يا ولدي أني أريد أن أرسلك إلى مدرسة في القاهرة لتتميم دراستك»، فسألته: «وهل تذهب معي إلى القاهرة لتقيم فيها؟» فقال: «لا، ولكنك ستكون تلميذا داخليا في المدرسة، بين من يخاف عليك ويعتني بأمرك»، فسألته: «ولم لا ترسلني إلى القسم التجهيزي من مدرسة رأس التين؟» فأجابني: «إنهم ربما ألغوا القسم التجهيزي من هذه المدرسة، وسأرسلك إلى أحسن مدرسة في القاهرة، وما رغبت في ذلك إلا لكي تتعود على التغرب ومعاشرة الأساتذة والتلامذة»، فرضخت لأمره وأنا كاره لفراق موطني وابنة جارنا، التي كانت في ذلك الوقت تزداد لطفا وجمالا، وكان قلبي مولعا بها، حتى إنني كنت لا أهنأ إلا بجوارها، وكانت دائما تحادثني وتذاكرني الدروس، وكنت أشعر بانعطاف نحوها يزداد يوما عن يوم، وأنا لا أعرف وقتها غراما ولا هوى، بل كنت أتدرج في حب طبيعي ممزوج بالميل، ولو كنت أعرف ما تبطنه الأيام لما علق قلبي بشيء من ذلك، ولكنها الأقدار تجري بما تشاء.
Halaman tidak diketahui
ولما بلغها خبر سفري إلى القاهرة وأنني لا أراها إلا بعد ستة أشهر على الأقل، أسفت غاية الأسف، وصارت تجيء إلي كل يوم وتقول: «تعال نتفسح، وننهب لذة اجتماعنا؛ فقد قرب وقت سفرك»، وكانت تتبسم نحوي بما يشف عن حبها لي حبا ممزوجا بالإخلاص، حتى إنها قالت لي قبل السفر بيومين ونحن جلوس على مقعد بالحديقة: «هل تذكرني في سفرك؟» فأجبتها: «كيف لا أذكرك وأنت رفيقة حياتي من الصغر؟ وهبي أني لا أتذكر هذا المحيا الذي يبسم لي عن وداد ومحبة، فهل أنسى أياما قضيناها ونحن خليان من متاعب الدنيا؟» فقالت: «إن ذكرى ذلك الزمن تولد في قلبي بواعث غريبة، وبودي لو يعود ونعود كما كنا لا نعرف للفراق اسما.»
كل ذلك كان يزيد حبها في فؤادي، حتى كان يوم الخميس فذهبت معها للتنزه في الحدائق المجاورة لمنزلنا، فقالت: «أظنك مسافرا غدا إلى القاهرة»، فقلت لها: «نعم»، فقالت: «ليتني كنت معك»، فأجبتها: «بودي، ولكن عسى أن أراك قبل السفر»، فقالت: «ذلك لا بد منه».
وما زلنا نتجاذب أطراف الحديث بين تلك الرياض الغناء إلى وقت المساء، فرجعنا إلى المنزل ووجدنا أبوينا يتحادثان، فلما رآني والدي قال لي: «إنك مدعو لتناول العشاء في منزل سعادة البك مع سكينة»؛ فحصل لي سرور عظيم، ولما ذهبنا إلى المنزل جلسنا للأكل مع والدها ووالدتها، وكانت سكينة على يميني تحادثني وتلاطفني، ولم تكن أول مرة أكلنا سوية فإننا كنا مختلطين كأننا عائلة واحدة؛ لأن والدها كان صديق والدي ورفيق صباه، وكان يسكن معنا في بيت واحد، وبعد تناول العشاء جلسنا للمحادثة، ولم ندر إلا وقد حضر والدي ومرضعتي، وأمضينا تلك الليلة في هناء لا يشابهه هناء وأنا بين والدي ورفيقة صباي إلى منتصف الليل، فأشار والدي بالقيام لكي أنام وأقوم مبكرا في الصباح فذهبنا إلى مسكننا، وبودي لو كانت الدنيا تستمر ليلا إلى الأبد وأنا وتلك الفتاة نتجاذب الحديث، ونتذاكر عصر الطفولة.
ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. ذهبت إلى سريري وأنا أحاول النوم والأفكار تتجاذبني، حتى غلب علي النعاس فصرت أحلم أني راكب القطار وسكينة معي، وتارة في المدرسة، ولم أستيقظ إلا في الصباح؛ لأن يدا لطيفة وضعت على خدي تنبهني، ففتحت عيني ورأيت «سكينة» وفي يدها باقة من الزهور عليها ندى الصباح، فشعرت بحرارة تدب في جميع جوارحي حين لمست يدها خدي، فحولت رأسي قليلا حتى وضعت فمي على تلك اليد الناعمة اللطيفة وقبلتها قبلة شعرت لها بتيار سرى في مفاصلي كما تسري الكهرباء في السلك، ونظرت إليها فرأيت خدودها قد احمرت من الخجل، وقالت: «قم، فقد قرب ميعاد السفر»، فقمت وأديت فرض صلاة الصباح، ولبست ملابسي، وجلست معها نتكلم قليلا، وإذا بالخادم دخل علينا وقال إن «والدك يطلبك لتناول الإفطار»، فذهبنا إلى قاعة الطعام، وجلست هي بجانبي والباقة بيدها.
وبعد ذلك، أمر والدي الخادم بحمل جعبة السفر إلى المحطة، ثم جاءت مرضعتي وقبلتني بين عيني، ودعت لي بالسلامة، وخرجت من المنزل وأنا أشعر لأول مرة بمرارة الفراق، كل ذلك وسكينة بجانبي لا تنبس ببنت شفة، بل كنت أراها مفكرة كمن يبحث عن نتيجة أمر يود عمله، ثم كنت أراها تنظر إلي مرة وإلى والدي مرة أخرى حتى وصلنا المحطة فوجدت والدها هناك، وما لبثنا أن جاء القطار، وركبنا جميعا إلى أن وصلنا محطة سيدي جابر، فنزلنا وانتظرنا القطار الذاهب إلى مصر، وما لبثنا كثيرا حتى جاء فركبت أنا ووالدي فقط، وسلم علينا والد سكينة وقدم إلي صورته مع ابنته التي سلمت علي وعيناها مغرورقتان بالدموع، وقدمت لي الباقة فأخذتها، ويعلم الله أني بللتها بالدموع التي انحدرت من آماقي على تلك الزهور، ولما صفر القطار نظرت إلى سكينة ووالدها ورياض الرمل، وقلبي واجف ودموعي تسيل على خدودي، ولما سار القطار صرت أزود نظري من محاسن رفيقة صباي حتى احتجبت عن نظري، ولم أعد أرى سوى أشجار الرمل، فدخلت العربة ورأيت والدي يقرأ إحدى الجرائد، ولما رآني والدموع ملء عيني شرع في ملاطفتي قائلا: «لو كنت محلك ما بكيت كما تبكي ، بل لكنت أكثر سرورا»، فسألته: «وهل تظن يا والدي أن فراق الموطن والإخوان سهل؟» فأجاب: «أنا لا أنكر أن الفراق صعب، ولكن إذا كان الفراق لنيل المعالي والحصول على الشرف فإني لا أستصعبه، ولا سيما إذا كان الإنسان سيجتمع بإخوان يؤنسونه ويضاعفون مسراته»، فأجبته مترددا: «إذا كان!»
قال: «كن على يقين أنك ستكون مسرورا بين إخوانك التلامذة، فإن زمن التعليم كله سرور وهناء، لا سيما وأن المدرسة التي تذهب إليها مشهورة بحسن موقعها، ولطف أساتذتها، وجميل أخلاق ناظرها، وأدب تلامذتها.»
قلت: «وما اسم هذه المدرسة؟»
قال: «المدرسة التوفيقية»، فقلت: «طالما سمعت عنها أنها مدرسة أولاد الأغنياء، فهل يدفعون فيها مبالغ وافرة؟»
قال: «قد كان ذلك من قبل، وأما الآن فجميع المدارس الثانوية على حد سواء، وإنما تمتاز هذه المدرسة بحسن نظامها وحرية التعليم فيها، ولذلك فكبار الأمة يرسلون أولادهم إليها، وإني آمل أن تتخلق بآداب أحسنهم، وأن تختار لك من الأصدقاء من يعاونونك على أعمالك؛ فإن أصدقاء المدرسة يكونون أعظم أعوان المستقبل»، ثم انتقل للكلام معي في مسائل أخرى تهذيبية، حتى وصلنا إلى محطة مصر، وإذا بأصحاب الفنادق ينادون: «أوتيل كديفيال»، «أوتيل شبارد»، «أوتيل رويال»، ونحو ذلك، فنادى والدي رجلا يقول أوتيل كديفيال، وأعطاه جعبة السفر، ومن ثم ركبنا إلى النزل، وإذا به في سناء يشرف على الأزبكية. ولا أطيل على القارئ؛ فأقول إني توجهت في الصباح إلى المدرسة، وبعد الكشف الطبي أمرت بالعودة ثانية بعد أسبوع، وهكذا فعلت.
الفصل الثاني
Halaman tidak diketahui
في المدرسة التوفيقية
كنت أسمع بعض الناس يقولون إن زمن المدرسة أحسن أيام المرء وأهنأ أوقاته، وما كنت أصدق أقوالهم أو كنت أظن أن زمن تعليمهم ربما كان أهنأ من أيامنا، ولكنني عرفت الآن وتحققت صدق تلك الأقوال الصادرة عن التجارب والحكمة. نعم، أسعد أيام الفتى هي أيام الدراسة، أيام لا يعرف من مصائب الدنيا إلا أسماءها، زمن لا يتحمل الإنسان فيه سوى مذاكرة الدرس، زمن كل آمال المرء فيه التقدم على الأقران، زمن خال من الهموم والأحزان، ولن يعرف الإنسان قدر ذلك الزمان والهناء إلا بعد أن يكابد متاعب الدنيا، وبضدها تتميز الأشياء.
زمن سعيد قد مضى بصفاء
ما بين إسعاد وبين هناء
كشعاع نور في ظلام حالك
أو نقطة خضراء في صحراء
ولى وأبقى في الفؤاد رسومه
وكذا تولي سائر الأشياء
ولقد كان زمن وجودي في هذه المدرسة زمنا مملوءا بالمسرات التي أصبحت أقدرها الآن فأغبط طلاب تلك المدرسة؛ لأن الصحة تاج على رءوس أصحابها لا يبصره إلا المرضى، وأذكر أني كنت أبكي فيها بعض الأحيان لفراق والدي وحبيبتي، ولكن:
رب يوم بكيت فيه فلما
Halaman tidak diketahui
صرت في غيره بكيت عليه
فيا إخواني في المدرسة، وددت لو تمنحني الطبيعة قوة أسمعكم بها كلمات وبيني وبينكم أقطار شاسعة وبحار واسعة، فإذا سمحت الأيام واطلعتم على أقوالي فاحمدوا الله على وجودكم في هذه المدرسة، وليحمد الله الوطن على وجودكم فيها، فأنتم خير أبنائه وذخيرته على ممر السنين الآتية.
عزمت على أن لا أطيل الكلام في زمن المدرسة؛ فإن ذلك يحتاج لأوقات طويلة، ولعمري يمكن التلميذ أن يكتب مجلدا ضخما عن سنة واحدة فكيف بمن أقام ثلاث سنين متوالية؟! وبما أني خصصت هذا الفصل للكتابة عن أيام المدرسة فسأذكر المهم على وجه الإجمال.
أقمت في هذه المدرسة ثلاث سنوات متوالية، وما أخرجني منها قبل تتميم الدراسة سوى القدر المحتوم والحظ المنكود، ويعلم الله أني كنت متمتعا بجميع صنوف الراحة كأني كنت في منزلي، لا ينقصني إلا بعد سكينة ووالدي، وكنا في الصباح نفطر بالجبن والخبز والعسل، وكان أغلبنا لا يفطر في المدرسة بل من أكل الباعة الذين يوجدون أمام باب المدرسة، وأما الغداء فكان مع التلامذة الخارجية، وعند الساعة أربعة ونصف مساء تخرج التلامذة الخارجية ويبقى الداخلية في المدرسة يتنزهون ذهابا وإيابا في الحوش وأمام المدرسة، وكان ضباطنا رجالا كراما يصرحون لنا بالفسحة في الحقول والحدائق المجاورة، على شرط أن نعود إلى المدرسة قبل دق الجرس. ولا تسل عن أول ليلة بتها في المدرسة، حيث كنت حزين البال لا أعرف أحدا من التلامذة، ولكنني بالصدفة تعرفت بتلميذ جاء معي في حين واحد، وقد تأكدت بيننا روابط المودة بالنسبة لتوافق مشاربنا وأمزجتنا، وكان هذا الشاب يعادلني سنا، نبيها، ذكيا، محبا للمطالعة والمباحثة خصوصا في آداب اللغة العربية، ولذلك كنت أمضي أغلب أوقاتي معه لحسن أخلاقه وطيب معاشرته وآدابه. أما بقية التلامذة الداخلية فعلى العموم كانوا من خيرة الشبان، وبينهم مودة كأعضاء عائلة واحدة، وكنا مع سرورنا الزائد وراحة بالنا نظن أنفسنا تعساء، لا سيما حينما نرى إخواننا الخارجية يخرجون مساء ونحن دائمون مسجونون في المدرسة، حتى في يوم الجمعة لا نخرج إلا بعد الظهر ونعود في المساء، ولكن كل هذه أفكار صبيانية؛ لأننا لو تأملنا إلى الخارجية لوجدنا أغلبهم، إن لم نقل جميعهم، فاسدي الأخلاق؛ وذلك من عدم اشتغالهم بالدروس والتفاتهم لأشياء أخرى، وخصوصا الذين يأتون من البلاد فإنهم لعدم وجود من يقوم بأمرهم لا يهنأ لهم عيش من المطعم والملبس، وربما يسكنون في بيوت مضرة بالصحة، وربما لا يذهبون إلى الحمامات إلا كل شهرين أو ثلاثة، ثم لعدم وجود من يراعي سيرهم تراهم يسيرون حسب أهوائهم، والشباب مطية الجهل يقود المرء إلى ارتكاب كل منكر وفاسد. هذا فضلا عن أن التعليم في المدارس لعدم مزجه بأصول الدين الذي هو أس الفضائل؛ يجعل الشباب لا يعبئون بالآداب، ويرتكبون المحرمات، ولعمري إن مصر في احتياج إلى شبان يعرفون واجب بلادهم وأنفسهم وإخوانهم؛ ليكونوا مجموعا يدعى بالأمة المصرية، وهذا لا يكون إلا إذا مزج التعليم بالآداب والفضائل.
أقول ذلك لأني كنت متعودا على القيام بالفرائض الدينية حينما كنت بالإسكندرية، فلما أتيت إلى هذه المدرسة وجدت كل شيء بخلاف ما كنت أنتظر، فإنني لما كنت أصلي كانت التلامذة تسخر بي كأنني أنا أعمل عملا غير واجب علي وعليهم، ولكن التعود على شيء يجعل الإنسان يسخر بمن يخالفه، ومع ذلك لم يؤثروا على فكري؛ لأن والدي علمني وثبت أفكاري على مبدأ سرت عليه طول حياتي. وفي اعتقادي أن ذهاب الأطفال من الصغر بدون تهذيب عائلي إلى المدرسة يضر بالولد كثيرا؛ لأن المعلم إنما يعتني بمواد العلم، وهيهات أن يلتفت إلى الأخلاق إلا بما يهمه من جلوس التلميذ متأدبا، وإن شئت قل خائفا خاشعا مدة الدرس مهما كان شقيا فاسد الأخلاق خارجه، ذلك فضلا عن الاختلاط مع التلامذة سيئي الخلق والتربية. ومن هنا تعرف فائدة تعليم البنات، لا لكي يقرأن ويحررن أو يطالبن بحقوقهن ويعرفن ما لهن وما عليهن فقط، بل ليفدن أبناءهن ويهذبن أخلاقهم ليعيشوا عيشة هنية في الدنيا والآخرة.
أما صديقي الوحيد فكانت أخلاقه توافق أخلاقي في جميع الأمور، وكنا نذهب يوم الجمعة بعد الظهر لزيارة الأهرامات والمقابر والمساجد العتيقة والنزهة البسيطة في بعض الجهات الخلوية وما شابه ذلك، وفي تلك المدة كانت تأتيني رسائل من والدي يحثني على الاجتهاد والسير الحسن، حتى جاء شهر رمضان المعظم وبعد عشرين يوما صرحت لنا المدرسة بالإجازة، ولا تسل عن سروري حين ركبت القطار، وأرسلت تلغرافا إلى والدي، وكان معي صديقي الذي كان مسافرا إلى دمنهور، ولما وصلنا إلى تلك البلدة ودعته، وسار القطار حتى وقف في محطة سيدي جابر، فوافرحتاه! حيث وجدت سكينة تنتظرني هناك مع خادمي، وقد رأيتها تغيرت قليلا وازدادت جمالا على جمال وبهاء على بهاء، وحين أبصرتني أقبلت علي وسلمنا سلام المحبين، ثم صرنا نتمشى ذهابا وإيابا على الرصيف، وهي تسألني عن القاهرة والمدرسة وإخواني وأنا أجاوبها، فما أسعد تلك الأوقات!
ما كان أصفى العيش لو دام كما
قد كان في ماضي الزمان الأول
ليت الكواكب والطبيعة كلها
وقفت وذاك الوقت لم يتحول
Halaman tidak diketahui
وبعد زمن قصير جاء قطار الرمل، فركبت معها وسار بنا سيره المعتاد بين الرياض الغناء وسكينة تحادثني عن والدي ووالدها، حتى جئنا محطة باخوص فوجدت والدي على المحطة، وحين رآني قبلني بين عيني وقبلت يده ثم سرنا وأنا على يمينه وسكينة على يساره حتى وصلنا المنزل، ولا تسل عن الأيام القلائل التي قضيتها وأنا كل يوم أتنزه مع سكينة. ولما انقضت الأيام عدت إلى المدرسة، وكانت تراسلني سكينة من وقت إلى آخر، إلى أن جاءت المسامحة الكبيرة. واعذرني أيها القارئ أن اختصرت في وصف تلك الأيام وشرحها؛ فإن ذكراها تجدد أحزاني وتضاعف همومي، عافاك الله من مثل مصائبي، إنه رءوف رحيم!
ولا أقول لك إن مدة المسامحة كانت كليل وصل في زمان هجر أو شجرة في صحراء أو نقطة بيضاء في صحيفة سوداء، وبعد انقضائها عدت إلى المدرسة، وما كان أصعب فراق سكينة! ولكن التعود على الفراق يخفف آلامه. ولما وصلت إلى المدرسة تقابلت مع إخواني كما تتقابل أعضاء العائلة مع بعضها بعد طول فراق، وبعد مضي شهر أتاني جواب من سكينة، هذا نصه:
إلى رفيق صباي: أمين
إذا صدق ما يقوله الناس أن قلوب المحبين ترى من وراء حجاب، فيحتمل إن كان عندك ما عندي أن يتخيل لك قرب مقابلتي؛ لأن وافرحتاه! والدي عزم على الإقامة في القاهرة مدة فصل الشتاء، ولو أنني أحزن لفراق الرمل ورياضه إلا أن سروري بلقياك واجتماعي بك من وقت لآخر يجعلني فرحة مسرورة بذهابي إلى القاهرة، وآمل أن تنتظرني على المحطة يوم الجمعة المقبل؛ لنذهب معا إلى المنزل الذي استأجرناه بالقاهرة لهذا المقصد. واقبل سلام حبيبتك.
سكينة
وددت لو منحني الخالق فصاحة سحبان لأشرح للقارئ مقدار السرور الذي سرى في فؤادي حين اطلعت على هذا الجواب، الذي أحفظه الآن بين أوراقي، ولعجزي عن الشرح أترك الأمر للقارئ النبيه ليتصور حالتي حينما أعلم أن رفيقة صباي وحبيبة فؤادي ستكون بالقرب مني، وأراها على الأقل كل أسبوع، ولا بد أن أذكر هنا أن حبي لها بعد المسامحة بلغ درجة الهيام ودخل في دور جديد، ورأيت محاسنها تزداد يوما عن يوم، فلله ما ألطف أخلاقها! وما أسحر عيونها!
ولكن حبي لها لم يكن له عندي هيئة غرام حينذاك، وطالما منعت نفسي عن التعلق بها لسببين؛ أولهما: أني لم أكن واثقا من حبها لي، وأنها ربما أحبت آخر، ثانيا: أن لم يكن لي أمل بزواجها لاختلاف آبائنا في درجة الثروة، فإن والدي لم يكن إلا تاجرا ووالدها من المثرين الكبار، ولكن لا ينفع العذل والمنع فإن الهوى أصاب فؤادا خاليا فتمكن، ولقد غرست بذوره في قلبي فنما وفرع. وما زلت أعد اللحظات وأستطيل الأوقات حتى جاء يوم الجمعة، فأخذت من الناظر إذنا في الصباح وذهبت لانتظارها، وما جاءت الساعة الحادية عشرة حتى أقبل القطار ورأيت سكينة ووالدها ووالدتها وخادمها وخادمتها، فسلمت عليهم، وحين سلمت على سكينة كان قلبي يخفق خفقانا لا مزيد عليه من شدة الهوى، ثم ركبنا عربتين في إحداهما سكينة ووالدتها وخادمتها، وفي الثانية والدها وأنا والخادم. ولما وصلنا إلى المنزل، وكان في شارع الإسماعيلية، وجدناه ذا حديقة غناء، ورأينا خادمهم الثاني موجودا هناك ومعدا الغداء ولوازم المنزل، وكان مفروشا من أصحابه كما هو الشأن في كثير من بيوت الإفرنج.
وبعد تناول الغداء خرج والد سكينة لبعض أشغال في القاهرة، وخرجت معها إلى الحديقة بعد أن استأذنت والدتها في ذلك، فلما استوى بنا الجلوس في قمرية «كشك» وسط الحديقة، قالت سكينة: «ما أسعدني الآن بوجودك معي!» فأجبتها والفرح ملء قلبي: «أنت تتكلمين بلسان فؤادي، فأنا أكثر منك سرورا»، فقالت: «ألم تر السبب في استئذان والدتي للتنزه معك؟» - لا شك أنك تحبين الحدائق، وتميلين إلى محاسن الطبيعة. - ذلك أمر ثانوي. - ولكن ما هو الأولي؟ - ظننتك تفهم، ولكن لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت القصد. - أما ما في قلبي فذلك موضوع آخر غير التنزه والفسحة والإذن والحديقة. - وهل تظن أن الذي في قلبي هو الفسحة؟ قلت لك: لو كان في قلبك ما في قلبي لفهمت. - آه لو تعلمين ما في قلبي! - وما فيه؟ - سؤال ليس له عندي جواب، أو بعبارة أخرى لا أقدر على إبدائه. - وما الذي يمنعك عن إبدائه؟ أليس بيننا من روابط المحبة الأخوية ما يجعلك على ثقة مني؟ أتخاف أن أفشيه إن كان سرا؟ - أنا واثق منك، ولكن ... - لا تجعل للكلفة بيننا مجالا، وأفصح عن مرادك.
فنظرت إلى جمالها الباهر فرشقتني عيونها بسهام شعرت لها بخفقان في قلبي، ولم أقدر أن أتفوه بكلمة واحدة بل مسكت يدها وضغطت عليها، ثم وضعتها على صدري، فاحمرت خدودها. ولما كانت هذه الفتاة في غاية من النباهة فهمت مرادي، وقالت: «أنا أشعر بخفقان في قلبك، ولعله ناشئ عما يسمونه بالغرام، فهل وقعت في شباك الهوى؟» - نعم، وقضي الأمر. - تنبه لنفسك فالغرام صعب.
هلا سمعت عن الهوى إن الهوى
Halaman tidak diketahui
صعب وسهل متلف لحشاكا - أنا عارف، ولكن ما قدر يكون. - ومن هي تلك الفتاة التي سلبت عقلك؟ لعلها جميلة. - نعم جميلة، وأي جمال! - وهل تحققت أنها تحبك كما تحبها؟ وإلا كنت معرضا نفسك للخطر؛ فإنهم يقولون:
ومن الشقاوة أن تحب
ولا يحبك من تحبه - ذلك لا أعرفه، وإنما يظهر لي أنها لا تكرهني. - «لا تكرهك» شيء و«تحبك» شيء آخر؛ فإن الإنسان ربما كان يميل لواحد من الناس ولا يكره الآخرين. - سواء أحبتني أو لم تحبني، فإني هويتها وما عدت أحب غيرها والسلام. - ولذلك فإني أراك متغيرا.
ثم صمتت وتغير لونها.
أما أنا فزاد بي الهيام، ولم أسمع منها كلمة تدل على حبها لي، وسكت وأنا أنظر لها وهي مطرقة، والله عليم بما في الصدور. وما زلنا جالسين كأننا أشباح بلا أرواح حتى وقع نظرها على شجرة نرجس فقطفت نرجسة وقالت لي: ما أحسن هذه الزهرة التي تشبه عيونا من فضة بأحداق من ذهب! - لا، بل هي تشبه عيون الحبيبة. - لقد تمكن منك الغرام لتلك الغادة، هل تعرف للنرجس وصفا؟ - نعم، أتذكر قول الشاعر:
والنرجس الغض تسبينا لواحظه
وفي الرياض علينا قام نمام - هذا وصف العشاق، فاسمع وصف الطبيعيين:
عيون من لجين شاخصات
بأحداق كما الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات
Halaman tidak diketahui
بأن الله ليس له شريك - أنا أعرف تشبيها كهذا، وهو:
مداهن تبر في أنامل فضة
على أذرع مخروطة من زبرجد
وبينما نحن في مقارنة التشبيهين وإذا بوالدها قد دخل علينا، فنظرت إلى الساعة فوجدتها ستا، ونسيت أن أعود إلى المدرسة في هذه الساعة لتناول العشاء، فاستأذنت من سعادة البك فسألني أن أتناول العشاء معهم، فأبديت له عدم إمكاني لأني لم آخذ إذنا، ولكن إن شاء الله سأعود في الأسبوع الآتي، فلما عرف أن لا بد من ذهابي أذن لي. ولما سلمت على سكينة ضغطت على يدي قليلا، وهمست في أذني قائلة: «دع غرام التي هويتها والتفت إلى أشغالك»، فما كان أصعب هذه العبارة على فؤادي المندمل! فنظرت إليها نظرة تشف عن معان لا يفهمها إلا ذوو الغرام وخرجت. وبعد أن ركبت عربة أمرت السائق أن يسير إلى قصر النزهة فسارت العربة وأنا في عالم آخر عالم الفكر والتخيلات، أتفكر فيما قلته وفيما قالته وفي المدرسة، ولم أستيقظ إلا حين مرت العربة على كوبري السكة الحديد، وسارت في شارع شبرا بين حفيف الأشجار وضوء المصابيح وهبوب نسيم المساء حتى وصلت المدرسة، فنقدت السائق أجرته ودخلت المدرسة فلم أر التلامذة، فظننتهم في المذاكرة، وأن أغلبهم لم يأت من الخارج، فصرت أتمشى في الحوش وأنا متفكر في سكينة وجمالها، حتى وقفت بجوار السياج الموجود بين الحوش ومنزل الناظر تحت شجرة هناك كنت أحب الوقوف تحتها، وكان القمر ساطعا والنسيم عليلا والمنظر لطيفا يؤثر على العقول ويضاعف لواعج العاشق، ويولد روح الشعر والتخيل الجميل كما قال فيه الشاعر الأندلسي الوزير ابن عبدون:
يا نفحة الزهر من سراك وافاني
خلوص رياك في أنفاس آزار
والأرض في حلل قد كاد يحرقها
توقد النار لولا ماؤها جاري
والطير في ورق الأشجار شادية
كأنهن قيان خلف أستار
Halaman tidak diketahui
وبينما أنا أتفكر وإذا بيد وضعت على كتفي بلطف، فالتفت فرأيت صديقي ... فقال لي: أنت هنا وأنا أبحث عليك في الحوش والمذاكرة ومحل الأكل! - أنا هنا من الساعة السادسة وما فوق. - لكن لم أرك في العشاء. - وهل أكلتم؟ - أي نعم، من ساعة مضت. - ظننتكم لم تأكلوا للآن. - مسكين! ألم تأكل؟ وأين كنت من الساعة السادسة؟ أكنت واقفا هنا؟! ... أنت كثير التفكر يا صديقي، لا بد أن أفكارك منشغلة بأمر مهم، هل أنت في حاجة للأكل؟ - لا؛ لأني أكلت متأخرا. - وأين كنت اليوم؟ - في انتظار بعض أقاربنا على المحطة.
ولما كان صديقي المذكور من الشبان المطلعين على أشعار العرب وآدابهم وهو من النابغين في الشعر، سألته أن يسمعني بعض أبيات غزلية، فلما سألته ذلك قال: ولماذا تطلب أشعارا غزلية، هل أنت مغرم؟ - لا، ولكن أحب الشعر العربي، وخصوصا المؤثر منه، فهل تحفظ شيئا من شعرك أو من شعر غيرك؟ - يعجبني قول ابن زريق:
أستودع الله في بغداد لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لو يودعني
صفو الحياة وإني لا أودعه
وكم تشفع أني لا أفارقه!
وللضرورات حال لا تشفعه
وما كاد يفرغ من إنشاده حتى دق جرس المذاكرة، وبعد ساعة ذهبنا إلى عنابر النوم فنمت، والقارئ اللبيب يعرف كيف كان نومي وسهادي. ولما استيقظت في الصباح أديت فرضه، وعلى مثل هذا الحال من الشوق والقلق مر الأسبوع، وذهبت إلى منزل سكينة ولما دخلت وجدتها في انتظاري في الحديقة، ثم بعد السلام أخذت تسألني عن المدرسة وأحوالي حتى استطردت إلى ذكر غرامي، وقالت: ألا تقول لي اسم من هويتها لكي أتوصل إليها وأميل قلبها نحوك فإن الغرام أنحلك. - أنا لا أكلفك الذهاب إليها، ولا أظنك تقصدين الذهاب، اللهم إلا إذا كان كلامك هذا من باب المغالطة. - ماذا تقصد بذلك، ومن باب المغالطة؟ - أنت تعرفين من أهواها، لو كان في قلبك ما في قلبي. - وحرمة تربيتنا معا لا أعرف من تعني ومن تهوى! غير أني أقول لك إنك أخطأت في حبك لها خطأ عظيما. - أنت تجرحين عواطفي قبل أن أجرح عواطفك، نعم إنها من عائلة أغنى من عائلتي ولكن الحب يجمع بين الكبير والصغير. - أنت تقول إنني جرحت عواطفك، وأنت قد جرحت عواطفي من أسبوع مضى وما زلت تجرحها، ولم تكن هكذا آمالي منك. دعنا، هل حبيبتك غنية؟ وفي اعتقادي لو كانت تحبك كما تحبها لا تمنع ثروتها من الاقتران بك. - كفاني محاولة يا سكينة، أنت لا تحبينني كما أحبك، ألا تعرفين من أهواها؟ - قلت لك لا أعرفها وحياة حبك لها! - كفى يا سكينة، ألا يعرف الإنسان، ألا تعرفين نفسك؟!
فلما سمعت مني هذه الكلمة احمرت خدودها وطوقتني بذراعها، وبقينا كأننا سكرى من خمر الغرام المودع في طبقات النسيم، ولم أدر إلا وقد مر علينا على الأقل نصف ساعة زمانية ونحن ذهول من لذة الهوى، فحمدت الله حيث لم يأت والدها أو والدتها أو خادمتها فيروننا على تلك الحال، ثم قالت سكينة: إني كنت واهمة في حقيقة أقوالك، فأنت تحبني كما أحبك. وأخذت يدي ووضعتها بين يديها وضغطت عليها فشعرت بحرارة تدب في مفاصلي، ومسكت يدها وقبلتها، ثم قلت لها: «الآن يرتاح فؤادي؛ فأنت تحبينني كما أحبك.» - وهل عندك شك في ذلك؟ - إن الشك هو الذي أضناني. - لقد أسأتني بسوء ظنك، فكيف أحب غيرك؟ - بل أنت أسأتني بسوء ظنك، فكيف لا أحبك؟ - إذن فلنعش كما نشاء، وكما يشاء الغرام.
Halaman tidak diketahui
وبعد هذا اليوم الذي ابتدأ فيه غرامنا الحقيقي، صرت أقابلها كل أسبوع في منزلهم، ففي ذات أسبوع خرجت من المدرسة وذهبت إلى المنزل، فلما دخلت محل الاستقبال وجدت والدها جالسا وبيده جريدة، فلما رآني سلم علي وأجلسني بجانبه، وأخذ يسألني عن أحوالي في المدرسة وعن عدم مقابلتي له أغلب أيام الجمع، فأجبته: «إنني كنت دائما أحضر هنا، ولكن لم أكن أراكم في المنزل، وكنت أمضي أغلب الوقت مع سكينة نتباحث في الدروس - دروس الغرام»، فسألني: «هل تقرأ الجرائد؟» فأجبته: «إني لا أعتني بها، ولكن لي صديق في المدرسة مولع بقراءتها حتى إذا مر عليه يوم بدون أن يعرف الأخبار فإنه يتكدر.» - ومن هو هذا الصديق؟ - هو فتى من الشبان الأذكياء، وكل التلامذة تحبه وتمدحه؛ لأنه يحب وطنه كما يحب نفسه. - ولم لا تكون مثله، هل الوطن وطنه وليس وطنك؟ - نعم، إنه وطني وأغار عليه وأحب له السعادة، ولكني لا أهتم كثيرا بالأمور السياسية، ولا أشغل وقتي بها كما يعتني ذلك الفتى، فإنه يجمع التلامذة وقت الفراغ ويتكلم عما يجب على الشبان أن يعملوه لرفع شأن بلادهم من بث التعليم وتهذيب جهال الأمة، ولكني أظن أن كلامه يذهب أدراج الرياح؛ فإنه إذا لم تهتم الرجال الكبار بمصالح البلاد فإن الشبان لا يعملون شيئا، فهم كشجيرات بجانب أشجار كبيرة.
فقال: «ولكن الأشجار الكبيرة تتساقط أوراقها وتنكسر فروعها، وليس فيها ماء نمو ولا غذاء حياة، وأما الشجيرات فوإن كانت صغيرة ولكنها آخذة في النمو، وعندما تجف الأشجار الكبيرة الضخمة غير النافعة تفسح مكانا للشجيرات تنمو فيه وتتمتع بجو الصفاء لا يشاركها مشارك، وإذا كانت هذه الشجيرات معتنى بأمرها من الصغر نمت نموا عظيما وأفرعت وأثمرت أحسن ثمار تستفيد منه البلاد في الحال والاستقبال، وإلا فالعكس ظاهر. ولا شك أنك اطلعت على كثير من تواريخ الأمم التي ارتفع شأنها بعد انحطاطها، ورأيت أن الشبان هم الذين أقاموا عمادها وانتشلوها من وهدة الدمار والانحطاط، فاعلم يا ولدي أن مصر في احتياج إلى أفراد يسعون لصالحها كما يسعون لصالح أنفسهم، متحدين، مرتبطين بالجامعة الوطنية، لا فرق بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي، ولا يعرف ذلك إلا المتعلمون، ما لهم وما عليهم، وأنتم ذخيرة هذا الزمن، وكأني بمصر وهي تنتظركم انتظار المريض للطبيب؛ لتقوم بكم ما أعوج من أمورها، فكونوا معها لا عليها.
وهب أنكم لا تجنون ثمار اجتهادكم، ولا إخالكم إلا جانيها في حياتكم، فإنكم تبقون ذكرا حسنا لأبنائكم يتناشدونه بعدكم. وأنتم تقولون إنهم غرسوا شجرة الإهمال فأكلتم ثمرها استعباد الغير لكم، فاغرسوا أنتم شجرة النشاط تتمتعوا برؤية نموها في حياتكم وتجني بعدكم أولادكم ثمرها؛ السعادة والحرية، ويدعون لكم لا عليكم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.»
فأجبته قائلا: «إننا نسمع عن شبان أوروبا من الأعمال والنشاط ما يحير أفكارنا، ولا سيما حيث نسمع أنهم يتركون بلادهم ويذهبون إلى بلاد أخرى، والإنسان منا يخاف أن يخرج من بلده، كل ذلك يجعلنا نظنهم من طبقة أعلى من طبقتنا في القوى العقلية والبدنية.» - لو اعتبرت الحقيقة فأنتم أفضل من شبان أوروبا الذين نسمع بمدحهم؛ لأن آباءهم غرسوا لهم السعادة فجنوا ثمارها بالراحة والشرف وساعدوا على زيادة نموها، وأما أنتم فالحالة معكم بالعكس، فإنه فضلا عن أن آباءكم لم يغرسوا لكم شيئا فإنهم لم يتركوكم وشأنكم بل زادوا الطين بلة، وأما عن سفرهم إلى خارج بلادهم فذلك أمر لا يستغرب، ولا يكسبهم فخرا عظيما؛ لأنهم أنى يحلوا يكرموا، وأنى ينزلوا يعظموا، يخرجون من بلادهم لا يملكون شروى نقير فيعودون وقد ملئوا الأوطبة من الأصفر الرنان، كل ذلك بمساعدة إخوانهم في مستعمراتهم التي أوجدها لهم آباؤهم، والمكسب يولد النشاط، وأنتم أين تذهبون إن أردتم؟ أإلى أوروبا فتموتون من الجوع إن فقراء وتصرفون أموالكم إن أغنياء، والوبال في الحالتين، أم إلى البلاد المتوحشة تذبحون وتقتلون، ولا من يسأل عنكم، لا سفير ولا وزير، ولا تحميكم قوة مثل قوة بلادهم؟ شبانهم يترنمون بما فعلته أجدادهم لرفع شأن بلادهم وأنتم بمن تترنمون وبمن تفتخرون؟ شبانهم سعداء وأنتم تعساء. فاسعوا لإزالة هذه التعاسة، إن لم يكن عنكم فعن آبائكم.
فلما رأى علامات التأثر ظاهرة واليأس باديا على وجهي، قال: «لا تظن أن الزمان يستمر على هذه الحال؛ فإنكم ولا شك أحسن من إخوانكم الذين تقدموكم، فأنتم تربون الآن وتعرفون ما لكم وما عليكم ولذلك ترون تعبا في حياتكم، أما الشبان الذين تقدموكم فقد كانوا أسعد بالا لجهلهم، و«لذة الدنيا لمن جهلا»، والحالة تبشر بالنجاح، وإن التأثير الذي ظهر على وجهك يدلني على حسن عواطفك وحبك لبلادك وإخوانك، فساعد صديقك الذي تقول عنه؛ فإن الأمم تشقى برجال قلائل وتسعد برجال قلائل.
ولما قرب ميعاد المدرسة استأذنته وخرجت وأنا منشرح الصدر من محادثة ذلك الرجل العاقل الكامل، وتأسفت قليلا لأني لم أقابل سكينة التي بلغني أنها ذهبت لزيارة بعض العائلات مع والدتها، وعلى مثل هذه الحال مرت السنة وأنا أقابل سكينة كل يوم جمعة، ولما جاء فصل الصيف ذهبت أسرة سكينة إلى الرمل، وقد قضينا مدة المسامحة في تمثيل رواية الغرام، حتى جاء وقت المدرسة وودعت حبيبتي بفؤاد مندمل من الفراق، ولكن على أي حال مسرور بحبها.
ولما وصلت إلى المدرسة واجتمعت بالإخوان وأمضينا الأسبوع وخرجنا يوم الجمعة، تذكرت أيام وجود سكينة بالقاهرة، والأوقات التي أمضيتها معها في مثل ذلك اليوم، ثم خطرت ببالي أيام المسامحة، ولكني كنت أخفف لواعج الغرام لثقتي بحبها، ولم أعلم ما تخبئه الحوادث وتبطنه الأيام.
الفصل الثالث
إيه عصر الهناء لو أبت أو لم
يعر أيامك العزاز انقضاء
Halaman tidak diketahui
بعد مضي شهرين من السنة، في صبيحة يوم من شهر ديسمبر سنة 1894، ناولني أحد التلامذة تلغرافا ففتحته بقلب ثابت ظنا مني أنه ربما كان من سكينة تخبرني بأنها ستمضي فصل الشتاء مع والدها بالقاهرة وتود أن تراني على المحطة، ولكن ما وقع نظري على الكلمات الآتية حتى اضطربت مفاصلي وجمد الدم في عروقي:
إسكندرية الرمل الساعة 5,8 صباحا.
ولدنا أمين فريد بالمدرسة التوفيقية.
احضر حالا بأول وابور.
والدك
فتحيرت في أمري، ولم أعرف لذلك سببا سوى أن يكون والدي مريضا، أو أن سكينة حصل لها أمر لا سمح الله، ولكن ذهبت في الحال إلى الناظر واستأذنته في السفر، وكانت الساعة 9 فتمكنت من لحوق إكسبريس 9,5 الذي يصل إسكندرية الساعة واحدة، ولما وصلت إلى محطة سيدي جابر وجدت خادمي في الانتظار وعيناه مغرورقتان بالدموع، فلما رأيته على تلك الحالة ارتعشت مفاصلي وخفق قلبي وشعرت بقرب مصاب أو أمر خطير، فسألت عن صحة والدي فأجابني: «إنه بخير»، «وكيف حال سكينة ووالدها؟» فقال: «بخير»، «ولكن ما السبب في استدعائي هنا فجأة؟» - أمر مهم لا أعرفه. - ولماذا تبكي؟! أخبرني.
فهملت دموعه، ولعلمي أن هذا الخادم أمين وأنه يحب والدي محبة عظيمة، تيقنت أن والدي حصل له شيء، فكررت السؤال فأجاب: إن والدك مريض. - مريض! هل في خطر؟ - نعم، في خطر.
فشعرت بارتخاء في مفاصلي وزيادة خفقان في قلبي، فسألت الخادم: «هل يمكن والدي أن يتكلم؟» فأجاب: «إنه يتكلم قليلا.»
ثم جاء القطار فركبنا وأنا في حالة لا أقدر على شرحها، وليس لي إلا أن أتركها للقارئ اللبيب، ليتصور حالة شاب لا يعرف له أقارب ولا أما ولا أخا سوى ذلك الوالد الذي أصبح على شفا جرف هار.
ولما وصلنا إلى محطة باخوص أسرعت بالمشي إلى البيت، فقابلني والد سكينة وسلم علي، ولكني بدأته قائلا: كيف حال والدي؟ - والدك بخير، سكن روعك، ما لي أراك متغيرا؟! - ولكن الخادم يقول غير ما تقول. - الخادم جاهل لا يعرف شيئا، وقد طمأننا الحكيم على صحة والدك، وأنه يشفى بعد قليل من الزمن، غير أنه يحتاج للراحة قليلا، وهو نائم الآن فلا تدخل عليه لئلا يستيقظ؛ فالنوم قد يكون للمريض دواء. اجلس يا ولدي.
Halaman tidak diketahui
ثم أخذ بيدي وأجلسني بجانبه وأنا أقول له: «أحقا ما تقول؟» فأجابني: وهل عندك شك في صحة كلامي؟ ألا تعرف أني أحب أباك كما أحب نفسي وابنتي؟ واعلم يا ولدي أن الدنيا كلها أكدار لا تدوم لأحد من الناس، وعهدي بك صبورا تقابل الهموم بقلب جسور. - ليس هذا سيدي موضع نصائح، أحب أن أرى والدي فإن قلبي يحدثني بأشياء كثيرة. - إذا سكنت روعك وهدأت نفسك صرحت لك بمقابلته، ولا إخالك تنسى أن المريض يزداد مرضا إذا رأى ولده الوحيد في حالة جزع وهلع، فإذا وعدتني بالثبات أدخلتك عليه. - أعدك بالثبات والتجلد. - إذن قم بنا.
ولما وصلت إلى غرفة نوم والدي رأيته منطرحا على السرير، بجواره مرضعتي وخادمنا وسكينة، التي حين رأتني سلمت علي والدمع له في خدها الوردي ندوب، وعيناها كأنهما قطعتا مرجان لكثرة ما ذرفته من الدموع، ومثلها مربيتي وخادمنا الذي كان ينفطر حزنا، وكان المنظر هادئا، ووالدي بينهم ساكن البال، مصفر الوجه، ولما رآني حول نظره جهتي، وأشار إلي بالقرب منه فدنوت منه وأنا لا أتفوه ببنت شفة، بل وقفت مبهوتا بجواره، فمد يده ومسك بها يدي ووضعها على صدره ثم ذرف دمعة على خدوده الصفراء وجعل ينظر إلي ويبكي، منظر يفتت الأكباد، ويجرح الفؤاد، ويفيض الدموع! والدي بهذه الحالة وجميع من حولي يبكون، حتى والد سكينة كان يذرف الدمع مدرارا ويجتهد في مواراته عن نظري! كل ذلك وأنا باهت بلا دموع ولا كلام، ثم نطقت: «أبي»، وعندها انحدرت الدموع، وخنقتني العبرات، وسقطت مغشيا علي لا أعي ولا أدري، ولم أتذكر شيئا إلا أني شعرت ببرودة على جبيني ، مما يدل على أنهم أنعشوني بالماء، ثم صرخت: «أبي، ألا ترد علي؟! أبي، هل انتهت الحياة؟! أبي، لمن تتركني؟! أبي ...»
ولما سمع كلماتي المتقطعة التفت نحوي ونظر إلي نظرة ما عشت لا أنساها، وقال: ها أنا لديك، لا تقطع الأمل، وإذا مت فالله خليفتي عليك، ثم أغمض عينيه وسكت، فتقدم والد سكينة ومسك يدي وقال: «ألم تعدني بالصبر يا ولدي؟ إن الله يحيي العظام وهي رميم»، فلم أجبه، بل التفت إلى جهة أخرى، فلمحت سكينة فوجدتها تبكي بشدة فلم أعد أتمالك نفسي من البكاء كالأطفال. وبعد ساعة يشيب لهولها الولدان من أنين ونحيب، فتح والدي عينيه وأشار إلى مربيتي أن تساعده على الجلوس، فتقدمت وتقدم والد سكينة وساعداه حتى اتكأ على وسادة، ثم أشار إلي وقال: «أنا في حالة حسنة.»
ولكنها كانت صحوة الموت الأخيرة، ثم قال: «تقدم يا ولدي، اسمع ما أقوله لك»، كل ذلك كان بصوت منخفض. - اعلم يا ولدي العزيز أن هذه الدنيا ليست بدار بقاء، وأنا وإن لم أرحل عنها الآن فسأرحل عنها قريبا، والحزن ليس من شأن الرجال، وأنا أموت مرتاح البال؛ لأني ربيتك وهذبت أخلاقك وإن كنت لم أترك لك ثروة تستعين بها على متاعب الدنيا، غير أني واثق بهمتك، وأحب أن تتخذ لك طريقا تسلكه في هذا العالم فتعيش به شريفا مكرما، وأوصيك يا ولدي بالهمة والنشاط ومساعدة إخوانك والفقراء والمساكين بقدر إمكانك، وتمسك بقواعد الدين الشريف والأخلاق المرضية، وأنا أموت مستريح البال لأنك ستكون خير خلف لأبيك، وما مات من كنت نجلا له، وقد كتبت وصيتي في رقعة مع مربيتك، والله يوفقك ويهديك لما فيه الخير والفلاح.
وبعد أن أتم هذه العبارة قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، شهادة تنجيني يوم القيامة.
وهنا خفت صوته، وأغمضت عيناه، ومالت رقبته، فتقدم والد سكينة ومربيتي وحولا وجهه نحو القبلة، وأنا أبكي بكاء مرا، وأقول: «هل تموت يا والدي؟ ولمن تتركني؟» فنظر إلي كأنه يريد الكلام فلم يقدر، غير أنه رفع يده قليلا نحو السماء كأنما «الله موجود»، ثم شهق شهقة فارق الحياة. وهنا لا يمكنني أن أشرح للقارئ حالتي حينذاك، فإن مثل ذلك الوصف فوق طاقة البلغاء، فكيف بمثلي؟ غير أني أقول إنهم لما رأوني وقد وهنت قواي أخذوني إلى غرفة أخرى، وجاء معي والد سكينة يلاطفني، ويذكر لي الأمثال، ويصبرني على المصائب؛ كل ذلك وأنا لا أتكلم بكلمة واحدة، بل كنت أبكي بالرغم عن ملاطفته لي كما يبكي الطفل في حجر أمه، بينما أحضر الكفن ولوازم الدفن، وذاع الخبر في الحال، وجاء الناس أفواجا أفواجا، وقام بالمأتم عم سكينة وأخوالها، بينما كان والدها ملازما لي تلك المدة، وأتذكر أنه قال لي: والدك كان وحيدا في العالم، وأنت خلفه الوحيد، فكن مثله عاقلا صبورا تبق لك ولوالديك ذكرا حسنا، وما أجمل الصبر بالإنسان! وهل أنت من النساء اللواتي لا يعرفن إلا البكاء؟ واعلم يا ولدي أني خليفة أبيك عليك، وقد أوصاني بك، وسأحافظ على وصيته ما بقيت في قطرة دم، وأنك وابنتي الوحيدة كأشقاء لا فرق بينكما، فدع هذا الجزع وهون عليك، وقم لمقابلة الناس كما كان يقابلهم أبوك حين مات أبوه، فإن هؤلاء الناس هم الذين كان يحبهم أبوك ويبرهم، فحفظوا له الجميل واليد البيضاء، وأنا أتوسم في صفاتك أنك تمثل أباك في أطواره وأخلاقه الذكية، فإنه كان - رحمه الله - من أحاسن الناس.
ثم ضرب لي مثلا بأم عبد الله الذي شنقه الحجاج، فإنها حين رأت ولدها معلقا من رقبته بين جمهور من الناس، لفظت جملة تدل على عظيم صبرها ووثوقها من المولى - عز وجل - جملة تبقى ما بقيت اللغة العربية، جملة تولد الصبر في قلب الجزوع الهلوع، وهي:
أما آن لهذا الخطيب أن ينزل عن منبر الخطابة؟
فإذا كانت هذه امرأة وذاك حشاشة كبدها فما بالك لا تقوم وتدع هذا الجزع وتقف في مأتم والدك؟!
فأردت أن أشكره على اعتنائه بي فخنقتني العبرات، ولما رآني بهذه الحالة عرف أن فؤادي تلطف، فأخذ بيدي وسار بي يحادثني ويضرب الأمثال حتى وصلنا إلى المحل المعد لمقابلة الناس، وقد علمت أنهم واروه التراب. بينما كان والد سكينة معي رآني الحاضرون، قاموا لمقابلتي وتعزيتي، وأجلسوني بين والد سكينة وعمها، ولما جاء الليل وذهبت الناس أخذني والد سكينة إلى منزله، وجيء بالأكل فلم أقدر على تناول شيء منه، ولكنه - حفظه الله - أخذ ينصحني بأن آكل وإلا فقدت الحياة من الحزن والجوع، فأكلت قليلا، ثم جاءت سكينة ووالدتها وأقاربها ومربيتي، وجلسوا جميعا يتحادثون ويتذاكرون صفات والدي، وقد بلغني أنه مكث مريضا نحو شهر، ولكنه لم يرد أن يزعجني، حتى قربت منيته فطلبني إليه ليراني. ولما مضت أيام المأتم الثلاثة وانقضى كل شيء ورأيت البيت ليس فيه سوى أثاثه، هملت دموعي وتذكرت ماضي أيامي، وقلت:
Halaman tidak diketahui
نعم هذه يا دهر أم المصائب
فلا توعدني بعدها بالنوائب
فلا تحسبني باسطا يد دافع
ولا فاتحا بعدها فم عاتب
الفصل الرابع
عجبت لهذي الأرض كيف تلمنا
لتصدعنا والأرض أم العجائب
أحدث نفسي خاليا بخلودها
فأين أبي الأدنى وأين أقاربي؟
بعد مضي عشرة أيام من موت والدي أتتني مربيتي وقالت: «لي معك حديث يا ولدي، فهلم بنا إلى الحديقة»، فلما سمعت ذلك ذهبت معها معللا نفسي بسماع ما يزيل عني الهموم، ولما استوى بنا الجلوس على مقعد هناك تحت شجرة كنت أمرح وألعب تحتها مع سكينة ونحن خليان من متاعب الدنيا، قالت: اسمع يا ولدي كلامي، وثبت جأشك وتصبر على موت والدك فالدنيا كلها فانية، وقد أوصاني والدك أن ألقي إليك بعض كليمات. - وما هي؟ - أوصاني أن أقول لك ما أعرفه عن حالته وثروته ومركزه قبل موته، فاعلم أن والدك كان من كبار تجار الإسكندرية، وكانت والدتك من بلاد المغرب، تزوج بها أبوك حين ذهب إلى تلك البلاد من زمن مديد. - وهل تعرفين عن أهل والدتي شيئا؟ - لا يا ولدي؛ لأن مدة إقامتي مع والدتك كانت قصيرة جدا، غير أني أذكر لك أنها كانت جميلة الطلعة، باسمة الوجه، كريمة الأخلاق، عربية العنصر. ولما كان والدك مقيما بالإسكندرية حصل هبوط عظيم في أسعار القطن، وكان عند أبيك منه كثير؛ فخسر جميع ثروته وأملاكه، ولكن لثقة التجار به وحبهم له ساعدوه، وصار يشتغل معهم بدون رأس مال، ولما بيعت بيوتكم في الإسكندرية أخلى له سعادة البك - والد سكينة - محلا من منزله بدون أجرة؛ لأنه كان يحب أباك حبا لم أر مثله بين الأشقاء. - إذن هذا ليس منزلنا.
Halaman tidak diketahui
لا يا ولدي، ليس لكم فيه شيء، وقد أوصاني والدك أن أقول لك أن تسعى بنفسك وراء معيشتك، وقد رباك أحسن تربية، واعلم أنه لم يترك لك إلا مبلغا زهيدا كان يوفره بعد مصاريفه من دخله القليل، وقد أعطاني وصية كتبها بخطه في أول مرضه وها هي، وإنما أسألك أن تسمح لي أنا وخادمك أن نفارق هذا المنزل فما عاد لنا فيه بقاء، ويعلم الله أنني لو كنت أقدر أن أعيش معك دون أن أسعى وراء معيشتي ما تركتك قط، وخذ هذه الوصية.
فلما سمعت هذا الكلام وقع على قلبي موقع السهام، فخاطبتها: بودي أن أكون قادرا فتقيمين معي، وأما الآن فاذهبي إلى حيث شئت، ولا تنسي أياما قضيتها في منزلنا.
ثم سلمت علي ودعت لي بالنجاح، وتركتني وحيدا، والدنيا مظلمة في وجهي، والدموع تتناثر على خدي، وقد كنت أظن أن والدي ترك لي ثروة أستعين بها على إتمام دراستي، ولكن جاء الأمر بضد ما تمنيت. وبعد أن مكثت ساعة تائها لا أفقه ولا أعي خطر ببالي أن أقرأ الوصية؛ لعلي أجد فيها ما يخفف المصائب، ففتحتها ويدي ترجف وفؤادي يخفق، ولما وقعت عيني على خط والدي هطلت دموعي فخفت أن تمحى الكتابة فطويت الوصية حتى مسحت عيني، وفتحتها ثانية فرأيت فيها بالحرف الواحد:
ولدي الوحيد وحشاشة كبدي
ستقرأ هذه الوصية وأنا في عالم آخر لا ينفعني فيه إلا عملي وسيرتي التي أبقيتها ولعلها حسنة، واعلم يا ولدي أني كنت وحيدا في حياتي بلا أب ولا أم ولا عم ولا خال، قضى على الكل أمر لا مرد له، وهذه الدنيا لا تدوم على أحد ، فلم تدم عليهم ولم تدم علي، ولن تدوم عليك ولا على غيرك، فاسمع يا ولدي فيما فيه النفع للبلاد والعباد، وساعد الفقراء والمساكين، واتخذ لك طريقا شريفا تسلكه في هذا العالم، واسع لمعيشتك من أشرف الطرق، واختر العفة مع الفقر. واعلم أن الغاية لن تبرر الواسطة كما يزعم بعضهم، إلا في قليل من النوادر التي لا يقاس عليها. وكن رجلا ذا محبة وشفقة لأبناء جلدتك، وإذا ساعدك الزمان وارتقيت في أمتك فاجعل نصب عينيك خدمة بلادك. ولا يغرنك ما غر غيرك من نعيم الدنيا فكل شيء يزول، ولا يزول اسم رافع عماد أمته ومشيد ركن دولته.
وما المرء حيث يقضي حياته
لنفع بلاد قد تربى بخيرها
وأنصحك أن لا ترغب في خدمة الحكومة فإنها بئست المعيشة، حيث أصبح فيها المرء آلة صماء. وأملي أن تكون رجلا عاملا في الهيئة الاجتماعية. واجعل لك ما استطعت كثيرا من الأصدقاء وقلل ما استطعت من الأعداء؛ فالدهر دوار لا تؤمن غوائله. ولا تتعلقن بأسباب الحياة الدنيا؛ فإن ذلك مجلبة للجبن. ولا يبعثنك طلب الرفعة والمعيشة على خيانة بلادك، بل عش فقيرا لا تملك إلا قوت يومك، وذلك أمر ميسور في بلادك، مع حفظك الناموس شرفك وشرف أهلك وأمتك؛ فإن الأمة تشقى وتسعد بأفراد قلائل. ولا تستصغرن نفسك عن الإتيان بعمل يفيد بلادك؛ فإنك مدان بخدمتها كما يدان بها الأمير والوزير والكبير والصغير والغني والفقر. واعرف لنفسك حقها، فليس بمكرمها غيرك إذا لم تكرمها أنت. واعلم أن الناس في العالم سواء، أبوهم آدم والأم حواء، إنما يمتازون بأفعالهم، فما دمت سالكا سبيل السداد متبعا قوانين البلاد فلا تتذلل لأجنبي، ولا تتواضع لوطني إلا بما يفرضه عليك دينك وواجبك. وقم في أمتك حاثا على التربية وانتشار العلوم والفضائل وحب الحرية؛ فسعادة الإنسان دائما مرتبطة بسعادة بلاده. وهل تهنأ إذا كنت تنام على الحرير وتلبس الخز والديباج وتأكل أشهى المطاعم ومن حولك يتضورون جوعا حفاة عراة، الأرض فراشهم والسماء غطاؤهم؟ أظن ذلك لا يرضي البهيم فضلا عن الإنسان الممتاز بالعقل واللسان. وإياك ومعاشرة السفهاء؛ فالطبع كالماء يمتزج مالحه بعذبه. ولا تنكب على الملاهي؛ فإنها مفسدة لروح الشرف.
وكن على الدهر معوانا لذي أمل
يرجو نداك فإن الحر معوان
Halaman tidak diketahui
وشاور من هو أكبر منك سنا وأكثر منك تجربة. ولا تترك دراستك وبحثك بمجرد خروجك من المدرسة، بل خصص لنفسك وقتا تتعلم فيه القليل وداوم عليه، وإياك والإهمال! وأختصر على هذا؛ لما أعهده فيك من الفطنة والذكاء.
والآن أخبرك بأمر وهو أني لما ذهبت في سنة 1295 هجرية إلى بلاد الحجاز لقضاء فريضة الحج كانت معي والدتك، وقد تركناك وأنت صغير السن مع مرضعتك، وكانت والدتك حاملا فوضعت في مكة المشرفة غلاما سميناه شريفا، ولكن جاء القدر المحتوم وتوفيت والدتك عقب الولادة من كثرة نزيف الدم وعدم موافقة الطقس، رحمها الله رحمة واسعة!
ولما كان شريف طفلا وليس معي من النساء من تتكفل به، تركته عند امرأة مكية وأعطيتها مبلغا من المال، وأوصيتها أن تكتب لي عنه، فمضت مدة ولم تكتب لي، فلما أعيتني الحيل كلفت أحد الحجاج المصريين بالبحث عنها، فأخبر أنها توفيت فسأل عن الولد المودع عندها فلم يستدل عليه.
فإذا ساعدك الزمان فلا تضيع فرصة يمكنك الوصول فيها إلى شقيقك؛ لأنك وحيد في هذا العالم، و«من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح»، وإذا سمح الدهر وتقابلت معه فاعرفه بخال على خده الأيمن، ولا تنس أن تبلغه سلامي الأخير، وبث فيه الفضائل. وهذه وصيتي، والسلام عليك إلى يوم القيامة.
والدك
فما جئت على آخرها إلا ويدي ترتجف وقلبي يخفق ودموعي تنهمل، حتى إنني كنت أضطر إلى مسح الدموع التي كانت تغشي عيني فتمنعني عن القراءة، ولا إخال القارئ ألا يعرف حرج مركزي؛ شاب، لم يتجاوز العشرين من عمره، وقف في مزدحم العالم الإنساني، فقيرا لا يملك إلا مبلغا زهيدا لا يكفيه أكثر من سنة، يتيما لا أب له ولا أم ولا عم ولا خال غير أخ لا يعرف إن كان حيا أو انقضى أجله، وإن كان حيا فالوصول إليه يكلف العناء والفقر وربما فقد الحياة، ومحبا لغادة حسناء عرف درجته بالنسبة لها، وهيهات ثم ألف هيهات أن يحصل عليها، فأظلمت الدنيا في وجهي، وضاقت علي المسالك، وتصورت الدنيا أضيق من سم الخياط، واعتراني اليأس وجلست صامتا والوصية في يدي، وأنا ملقى بجانب الأشجار، ولبثت على تلك الحال مدة من النهار تمنيت فيها الموت بدل الحياة المحفوفة بالمصائب والمخاطر، فغلب علي النعاس فانطرحت على الأرض لا أفقه ولا أعي، وصرت أحلم تارة أني أرى شقيقي أمامي جميل الطلعة، وتارة أرى أني أقتل نفسي وأودع سكينة، وتارة أرى والدي كما كان في الحياة يلاطفني ويسألني عن دروسي. وما استيقظت إلا ويد ناعمة لطيفة وضعت على خدي، ففتحت عيني ورأيت سكينة جالسة بجانبي وهي في ملابس سوداء، تشرق كالقمر الساطع في ليلة دهماء، وعيناها مغرورقتان بالدموع حين رأتني بتلك الحالة والوصية مطروحة على الأرض، ولما رأيتها لم أتمالك من البكاء فأخذت تلاطفني ملاطفة الأم ابنها الرضيع وأنا أبكي بكاء الطفل وهي تبكي بحرقة، وما زلنا على مثل ذلك الحال إلى أن روينا من دموعنا الأزهار والأشجار ونحن صامتان لا حراك بنا، حتى ذهب النهار بنوره وسطع القمر من بين الأشجار، وأنه لم يظهر على منظر أكثر حزنا من منظرنا، والعيون متقرحة من البكاء والخدود بها من سيل الدموع أخاديد، كل ذلك ولا كلام غير صفير النسيم وحفيف الأوراق. وابتدأ الهواء البارد يهفو بجانب وجناتنا التي كانت تلتهب نارا، وازداد البرد حيث كان الفصل شتاء، فقالت سكينة: يا حبيبي، هلم بنا إلى المنزل لأن البرد قارس، وأظن والدي ينتظرنا على أحر من الجمر.
فأجبتها والدموع منهملة: والدك ينتظرك، ومن ينتظرني؟
وما كدت أنطق بهذه العبارة حتى خنقتني العبرات وهملت الدموع وصرت أبكي كما يبكي الرضيع، فبكت سكينة معي، والقمر شاخص لنا، وقد خيل لي أنه شاحب اللون كأنما هو يشاركنا في أحزاننا. وبعد زمن ليس بقليل قالت: كفانا بكاء، قم معي بحياة حبي لك فإن فؤادي يتفطر من هذا المنظر، وأخاف عليك من شدة الحزن. - لا تخافي علي، لو كنت تحبينني فإن راحتي في مماتي، والحبيب يحب لحبيبه الراحة بأية طريقة فساعديني على الموت. - ما هذا الكلام؟! هل أنت يا حبيبي أول الشبان الذين مات آباؤهم؟! - ولكني أول الشبان الذين ضاقت بهم الدنيا، وأحدقت بهم المصائب من كل جانب. - دع هذا الجزع، ولسوف تنسى كل شيء فإن في حبنا سعادة. - ليس هذا وقت الكلام يا سكينة؛ فالبرد قارس وأبوك في انتظارك على أحر من الجمر، فقومي إليه مصحوبة بالسلامة ودعيني وشأني أقلب أمري، ولي رب يرحمني ويشفق علي. - أنت تجرح فؤادي بهذه الأقوال، ألم يكفنا ما نحن فيه؟! - ولم أجرح فؤادك، أنت سعيدة وأنا تعيس، قضى الله ذلك ولا مرد لحكمه. - إذا كنت سعيدا فأنا سعيدة، وإن كنت تعيسا فأنا تعيسة؛ فسعادتنا وتعاستنا مرتبطتان. - قد كان ذلك فيما مضى، واليوم لا. - وماذا جرى اليوم؟ هل موت والدك يجعل بيننا فرقا ويمنع حبنا؟ - موت والدك يمنع حبك ولا يمنع حبي. - لا أفهم قصدك، فأنا ما زلت أحبك. - سوف تفهمين وسوف تعلمين حين تتزوجين بأمثالك السعداء، وكأن ما بيننا لم يكن شيئا مذكورا.
وما أتممت عبارتي حتى رأينا شبحا قادما فتحققناه فعلمنا أنه والدها يبحث علينا في الحديقة، ولما وقع نظره علينا قال: أنتما هنا ونحن في انتظاركما من زمن؟! وقد أرسلت الخدم في الحدائق المجاورة للبحث عنكما، ومن قلقي أخذت أتمشى في الحديقة فعثرت بالصدفة عليكما، فكيف تجلسان هنا والبرد قارس؟!
فأجبته: لك الشكر على اعتنائك بي، ولكن البرد لم يؤثر علي؛ فإن في القلب من المصائب نيرانا لا تطفأ. - ظننتك تركت الأحزان التي هي من شأن النساء، قم يا ولدي ودع هذه الأفكار.
Halaman tidak diketahui
ثم مسكني من يدي وسار بي إلى المنزل وسكينة بجانبه، فقال لها: لم لم تأت به إلى المنزل؟
فقالت: أبى الذهاب وفضل البقاء في الحديقة. - هلا أتيتني وأخبرتني! - كنت على وشك الذهاب إليك لما أصر على البقاء.
ثم قال لي: أظنك لم تأكل شيئا في نهارك ؛ فقد سألت عنك فقيل إنه خرج من الصباح ولم يعد. - الأكل وعدمه سيان عندي. - عهدي بك صبورا عاقلا، وكلنا مات آباؤنا ونحن مثلك.
وما زال يلاطفني حتى وصلنا إلى المنزل وجيء بالأكل، ولولا إلزامه إياي بالأكل ما أكلت، ثم أمرني أن أذهب للنوم فذهبت، ولكن:
متى يغفل المسكين والجمر تحته
وجيش الرزايا والهموم يحاربه؟
الفصل الخامس
دع اليأس والأحزان فالعمر واحد
وما كان مقدورا فسوف تقابله
إذا كنت في مصر تنال صروفه
Halaman tidak diketahui
ففي غيرها لا شك أنك نائله
وأدرى الورى من عاند الدهر قصده
موت مذاقا بالخطوب مناهله
وأودع في نار التجارب مدة
وأثقل من حمل المصائب كاهله
وما المرء إلا حيث يسعى لرفعة
فتبقي له ذكرا جميلا فعائله
لعمري لم ترسل الشمس أشعتها الذهبية على سرير نائم أكثر مني حزنا وأكسر مني قلبا وأتعس مني عيشا وأشغل مني فكرا، مرت تلك الليلة لم يزر فيها النوم جفني وأنا أتفكر في وصية والدي وحالة شقيقي وكيفية الوصول إليه والحصول عليه، فصرت أضرب أخماسا لأسداس وأتصور أني في مكة أبحث عن شقيقي شريف، وتارة أتصور أني لم أعثر عليه، وتارة أتصور قبره أمامي، وتارة أتصور أن عرب الحجاز تفتك بي ... إلى غير ذلك من الوساوس، حتى فتح باب الغرفة ودخلت سكينة، فلما رأتني مستيقظا قالت: أنت مستيقظ، وأنا لم أرد أن أدخل عليك خوف إيقاظك بعد سهرك في الحديقة؟! - شكرا لك، وهل تظنيني أنام؟
فقالت: ألم تنم أمس؟ فقلت: وهل أنا مثلك أنام الليل؟ شتان بين من أثقلت الهموم كاهله وبين خلي يحلم بالسعادة طول ليله. - إذا استمررت معي على هذه المعاملة فإني أموت ولا شك. - لا تموتي، فسوف أمنع عنك هذه المعاملة بذهابي من بيتكم فما عاد لي عيش فيه، ولكم الشكر على ما أسديتم إلى والدي وإلي من المكارم. - وكفى بالله، لا أقدر أن أسمع هذا الكلام. - ستسمعينه يا سكينة بالرغم عنك وبالرغم عني.
فبكت ولم تتكلم مطلقا، ولكن قمت فلبست ملابسي ووضعت وصية والدي في جيبي، وسألتها عن محل والدها فقالت: إنه في انتظارك لتفطر معه. فخرجت وخرجت معي إلى حيث يجلس والدها، فلما رآني متغير الوجه قال: إنك لم تنم إلا قليلا يا فريد.
Halaman tidak diketahui