Yasqut Sibawayh
لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه
Genre-genre
برج بابل
يخطئ كثيرا من يتصور أن قضية اللغة من القضايا الهامشية أو الثانوية التي يواجهها المجتمع، أو حتى أنها مجرد قضية هامة من بين قضاياه المتعددة. وقد يرى البعض أن الأجدى التعرض للقضايا الاقتصادية أو الاجتماعية، أو غير ذلك من الموضوعات الحيوية التي تمس الحياة اليومية للإنسان العربي. أما قضية اللغة فهي ترف ينبغي أن نتركه للمتخصصين وعلماء الفقه اللغوي.
فالحقيقة أن اللغة قضية حيوية ستسهم بشكل حاسم في تحديد الهوية العربية وتطور ثقافتنا في القرن الحالي. كما أنها ملك لكل من يستخدمها وليست حكرا على علماء اللغة. وسنحاول في هذا الفصل إثبات أهمية اللغة في حياة الإنسان منذ بدء الخليقة، وكيف كانت عنصرا مؤثرا في تطور المجتمعات وتشكيل الوجدان الجماعي لها.
وهناك بين اللغة والفكر علاقة جدلية؛ فاللغة وعاء الفكر، والفكر مضمون اللغة. والإنسان لا يستطيع أن يفكر بطريقة مجردة وإنما يفكر من خلال كلمات وتركيبات لغوية تتفاعل في ثنايا عقله. فنقل الأفكار يكون دائما باللغة سواء عن طريق الكلام أو الكتابة.
أما وسائل التعبير الأخرى مثل الرسم والموسيقى مثلا فتنقل شحنات من الأحاسيس والمشاعر. لكن كل هذه الوسائل التي لا تعتمد على اللغة عاجزة عن إيصال الفكر من إنسان إلى آخر. وقد ظل الإنسان لمئات الآلاف من السنين أقرب إلى الحيوان؛ نظرا لعدم تبلور أداة للتفاهم بينه وبين الآخرين من بني جنسه.
وعلماء الأنثروبولوجي يؤكدون العلاقة المتوازية بين تطور اللغة وتقدم المجتمعات الإنسانية؛ فكلما استطاع الناس أن يتفاهموا فيما بينهم، كلما نجحوا في تطوير حياتهم ومستوى معيشتهم. والعكس صحيح، فقد ثبت دائما أن التخلف الفكري والإفلاس الحضاري يؤديان بالضرورة إلى اضمحلال اللغة.
والتخلف اللغوي يعيق العقل عن التطور الحضاري ويؤدي إلى تحجيم للإدراك والخيال اللازمين للتقدم؛ فالفقر اللغوي كثيرا ما يعكس فقرا معنويا وحتى ماديا للمجتمع.
والتعريف الشائع للإنسان هو أنه حيوان ناطق، فالفارق الرئيسي بين الإنسان والحيوان هو النطق، أي: اللغة. الحيوان لا يستطيع التعبير عن نفسه، ولا يستطيع أن يورث خبرته وتجاربه لمن بعده، على عكس الإنسان الذي ينقل كل معارفه وعلمه عن طريق اللغة.
وهناك نظريات عديدة في أصل اللغات، ونشأتها وتطورها عند الإنسان البدائي الذي ظل ملايين السنين حتى توصل إلى لغة راقية تعبر عن مشاعره ومتطلباته. لكن علماء الأنثروبولوجي يرجحون أن الإنسان الأول كان يدرك الأشياء في البداية، كصور مجسدة في عقله، فيفكر مثلا في أسد أو نهر، فيتمثل كل منهما أمامه، وظل كذلك حتى بدأ يصدر أصواتا للتعبير عن تلك الأشياء التي يريد استحضارها ونقلها لغيره. ومن هنا بدأت اللغة.
وظل التفكير الإنساني قاصرا وأقرب إلى تفكير الحيوان طالما لم تتكون لغة التحاور؛ فالتفكير في الأشياء المادية المحسوسة والأحاسيس الغريزية مثل الخوف والجوع يساعد على خلق لغة بدائية تتكون من أصوات، ثم كلمات مقتضبة للتعبير عنها، لكن التطور الذي عرفه الإنسان بعد المراحل الأولى من وجوده على الأرض، كان يستلزم وسيلة أكثر تعقيدا للتعبير والتفاهم. وبدأت اللغات تنمو وتتطور وتجسد أفكارا مجردة. وبالتوازي مع تطور وسيلة التعبير عما يجيش في صدره من أحاسيس ومشاعر انفتحت أمام الإنسان آفاق التقدم والحضارة.
Halaman tidak diketahui