فسواء صحت قصة سارية أو صح جزء منها، أو لم يصح شيء منها على الإطلاق، فيكفي أن تروى عن عمر بين معاصريه؛ ليثبت لنا أمر محقق لا شك فيه، وهو أن «الحساسية الخاصة» كانت ملحوظة فيه حتى نسب إليه الناس ما نسبوا من رؤيته حيش سارية على البعد وندائه عليه، فهو قبل أن تقع هذه القصة كان من أصحاب «الحساسية الخاصة» التي يلحظها من حوله، وينسبون إليها الحوادث التي تناسبها.
وهذه وحدها علامة كافية من علامات العبقرية، ولا حاجة معها إلى تحقيق ندائه إلى سارية واستماع سارية له كما جاء في القصة المروية أو على نحو يقاربها.
فهو في رأي من حوله رجل يحس الأشياء التي لا يحسونها، ويملك القوى النفسية التي لا يملكونها، وهذا كاف لاتصافه بعلامة بارزة من علامات العبقرية في رأي النفسانيين المحدثين.
وهنا نحن على «بر الأمان» الذي لا مجازفة فيه، ولا يكلفنا كثيرا ولا قليلا في التعرض للتلباثي بالنفي والإثبات.
ولكنا إذا تجاوزنا هذا وتعرضنا لتحقيق التلباثي للحكم بإمكانها أو استحالتها، ففي وسعنا أن ننقل من بر أمان إلى بر أمان مثله لا مجازفة فيه، وهو مطالبة الذين يجزمون باستحالتها بالدليل على ما يقولون.
لأن الجزم باستحالة شيء بغير دليل كالجزم بوقوعه عيانا بغير دليل، كلاهما خرافة لا يقبلها العقل، وإن جاء أحدهما من ناحية الإثبات.
وإنما الموقف السليم بين الإنكار والقبول أنك تترك الباب مفتوحا لمن يثبت وينفي على السواء، فيجوز أن يأتي غدا من يثبتها ثبوتا قاطعا لا شك فيه؛ ويجوز كذلك أن يأتي غدا من ينفيها نفيا قاطعا لا شك فيه، ولا يجوز - حتى ذلك اليوم - أن نقطع باستحالتها على وجه من الوجوه، وكل ما امتنع القول باستحالته فهو معلق بالممكنات، ولا سيما إذا كثرت بيننا مشبهاته وشاع بيننا على درجات دون درجته القصوى، باتفاق الشعور بين ألوف من الناس.
يسألني الأستاذ شاهين: «كيف بلغ صوت عمر سارية وصحبه فاستجابوا له؟»
فالجواب المأمون هنا أنني لا أعلم ولا أجزم بأن الصوت وصل واستجيب، ولا أجزم كذلك بأنه ممتنع الوصول والاستجابة.
ولكننا إذا قلنا بوصوله واستجابته، فإنما يتصور العقل وقوع ذلك على صورة من صور ثلاث:
Halaman tidak diketahui