نعود إذن لنكرر أن النهضة الشعرية التي تعنى بإنصاف المواهب وتغذية النضوج ثم تقاوم التحرر تنعكس عليها جهودها، فالتحرر عنصر هام من عناصر التبريز؛ لأن قوامه الصدق والسماحة الفطرية والبساطة الصريحة، ومحال أن يكون الشاعر شاعرا كاملا إذا كان يكبت عواطفه كيفما كانت، ويكذب على نفسه وعلى غيره. وبهذه المناسبة لا ننكر أن بعض الغاشمين المنتسبين إلى الأدب أو إلى الدين يهرع إلى الاتهام بالزندقة والإلحاد كل نزعة تصوفية، ولكن الشاعر الموهوب المتحرر يسخر من كل هذا؛ لأنه بوجدانه يحس بما ننعته «نقط التركيز» للألوهية في مخلوقات الله وبدائعه - سبحانه وتعالى - فيمجد فيها الفنان الأعظم ... ولخير للشاعر أن يوصم بألف وصمة غاشمة من أن يكون أسير الروح عبدا للتقاليد، أو خادعا لنفسه ولغيره. وقس على ذلك ما ينعت بالاستهتار في الشعر حينما لا يتعدى هذا «الاستهتار» التعبير الطبيعي لجوانب قوية من الحياة ...
ولعل من الخير أن ننظر نظرة نقدية في سيرة الشاعر الوجداني الكبير چون كيتس
John Keats
فإنها تشرح لنا ما أجملناه من قبل، وتنبهنا إلى عوامل أخرى في رفعة الشعر والشاعر، وما اخترنا ذكراه إلا لأنه من أسبق الشعراء إلى ذهننا، كما أنه أصبح من أحبهم منزلة لدى جميع الأدباء والمتأدبين.
عرفت عن كيتس في طفولته الروح الثورية، ثم عرف عنه فيما بعد الاطلاع الواسع، وأخذ بنصيب يذكر من الدراسة العلمية والطبية، ثم استولت عليه فكرة الحياة الشاعرة، والعمل على تحقيقها وهو في الحادية والعشرين، فتبع هذا أن كانت روحه التجديدية طبيعية لا مصطنعة، وأن كان هداما ثائرا في شبابه. وعرفنا عنه غرامه بجورجيانا - زوجة أخيه فيما بعد - ولمحنا صورة التسامح لنفسه الصافية، وقدرنا كيف كانت هذه الحبيبة نبعا صافيا علويا لشعره الوجداني، كما كانت محبوبته الثانية «فاني» نبعا آخر جميلا. كذلك عرفنا أن حياته الواقعية كانت شعرية؛ فقد كان إشفاقه على أهله وعنايته بهم بمثابة قصائد رائعة مدهشة ... وكان كيتس بروحه الرومانطيقية المبدعة كثير المحاولات التجديدية، ولكن الجمهور لم يكن ليكترث لأشعاره الأولى بالرغم من كتابة «هنت» عنها. وقد تعاون فيما بعد مع الأدباء: هايدن، وبراون، وسفرن، وغيرهم، ثم حملت عليه مجلتا بلاكوود وكوارترلي الشهيرتان، وتنكر له هايدن صديقه القديم، ولكن كيتس بقي عظيم الجلد، عظيم الرجولة، سامي الخلق، طيب القلب، بدليل تسامحه إزاء هايدن وأمثاله ... وكان كيتس يعجب كثيرا بسبنسر، وكان متأثرا به، ولكنه قلما كان يحتذيه، بل كان محتفظا غالبا بطابعه الشخصي، واستوعبت شخصيته الأصيلة مطالعاته (وبينها الكثير من الأساطير والميثولوجيا الإغريقية وغيرها) دون أن تخضع لها. ومات في شبابه بذات الرئة، وهو إلى آخر لحظة في حياته شعلة باهرة ما كان يجوز أن تنطفئ لولا قسوة القدر ...
ومن هذه الأثارة عن حياة كيتس نلحظ: (1)
النفس الشاعرة الثائرة بفطرتها التي لم تتحول طول حياته، وأنه مثال للشاعر الذي يكون في حياته شاعرا كما يكون في نظمه شاعرا. (2)
أن دراسته ومطالعاته لم تفسد شعره، بل زادته صقلا، وجعلت شهده منوعا شهيا. (3)
أنه شعر بما نسميه «طاقته الشعرية» وتمنى أن يكون شاعرا مجيدا وعمل لذلك، لا عن طريق الصناعة، بل عن طريق التعبير الجريء، وجراءة التعبير الفني جزء أصيل من العبقرية، وبغير هذه الجراءة الطليقة ما كانت تتجلى قوة شكسبير، ولا دانتي، ولا أبي العلاء المعري، ولا عمر الخيام، ولا أمثالهم من رواد الفن الأدبي. (4)
أنه انتفع بالمعاونة المادية التي قدمها له أصدقاؤه الأدباء والناشرون، ولولا هذه المعاونة لما انتفع الشعر بكل هذه الآثار التي أنجبها وودعها في شبابه ... وفي الواقع إنه لولا عون المال الذي استند إليه كبار الأدباء والشعراء لما بلغت آثارهم ما بلغت من الكثرة والروعة، وهذا مشهود في الشرق والغرب على السواء، وآخر شاهد على ذلك بيننا المرحوم أحمد شوقي بك. ومهما يكن لشاعر من إنتاج في بؤسه وفقره فهذا الإنتاج لا يقارن بطاقته المتجلية في ظروفه المواتية. (5)
Halaman tidak diketahui