وغفل «7» ليلته تلك من الاحتراس، واقتدى بغفلته سائر الناس، حتى إذا أثقل العيون كراها، ونفه «8» النجوم سراها، ضجت الآفاق بخفق الطبول، وغطغطة الخيول. وأحيط بالقصر الذي نزله أبو علي على قتاله، أو نيل المراد من استنزاله، فثار من حف حوله من غلمانه للدفاع، وتأريث جمرات المصاع، وخف بنفسه إلى زعيم القوم يسأله «9» ما خطبك؟ ولماذا حربك؟ فقال له: إن «10» خوارزمشاه أمر بك فتقرب إليه برفق الإذعان، دون عنف الضراب والطعان، فهو للفتنة أطفى، وللإحنة أنفى «1»، ولباع الانتقام أقصر، ثم أنت بالرأي أبصر. فبادر أبو علي إلى النزول، فاستردفه الزعيم حتى عبر به النهر نحو صاحبه، وذلك قبل الفجر من ليلة السبت غرة شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلثمائة، فأمر به إلى بعض القصور معتقلا فيه، وشد الطلب على أصحابه وقواده فأسر منهم الأعيان والأركان، وأفلت إيلمنكو صاحب جيشه بمن اتبعه نحو الجرجانية. ونودي في الأفراد وخدم القواد: من أقام يومه بهزاراسف أبيح دمه، فتفرقوا أيدي سبأ في الأقطار «2»، كشوارد الأمثال والأشعار، [67 ب] واعتقل الباقون على صغار وخسار إلى أن أذن الله في خلاصهم بوالي الجرجانية مأمون بن محمد وذلك إنه «3» لما سمع بنبأ أبي علي وما ارتكب منه خوارزمشاه اضطرب «4» قلقا، واضطرم حنقا، وبات يرعى النجوم أرقا، إلى أن استتب له «5» التدبير عليه «6»، فرماه بعسكر جرار «7»، يستخفون مثاقل الأعمال، ويخوضون مشارع الأهوال، وينفذون رواسي الجبال، ويستنزلون العصم «8» من شعف القلال. وسار فيهم إيلمنكو في خواص أبي علي، رجال قد أوغرتهم الحفائظ والإحن، وأحرجتهم النوائب والمحن، فهم يسعون إلى النار، لنفي العار ودرك الأوتار، فعبروا إلى كاث «9» مدينة خوارزمشاه، وأحاطوا بها إحاطة الأطواق بالأعناق، وناوشوه الحرب، من كل أوب ودرب، فظلت تلفح وجوه رجاله بجمراتها حتى أجلتهم عنها مدحورين، وحصلتهم في ربقة «1» الإسار مقهورين، ودمروا على خوارزمشاه في قرارة بيته، فأعطاهم بيديه «2». ووصل إلى أبي علي فحمل ثقل قيده على كعبيه، وتبادلت حالاهما في رقعة من أديم النهار، فصار الأسير منهما أميرا، والأمير أسيرا، وكان ذلك [68 أ] على الله يسيرا «3».
وتحمل أبو علي نحو الجرجانية في أحسن شعار، وحمل أبو عبد الله على قتب «4» عار، بين خزي وعار، فاستقبلهما مأمون بن محمد، فقابل أبا علي بالإعظام والإجلال، وعومل أبو عبد الله من ضروب الإذلال، بما يجل عن المقال. وانسلخ مأمون بن محمد عن مجهوده في إكبار أبي علي وإجلاله، ومشاطرته صنوف أمواله، وأقام العطايا لعامة رجاله، حتى انتظمت أحوالهم «5»، وأخل بهم اختلالهم.
وقراه ذات يوم وكان قد اتخذ مجلسا كأنما عمل عليه صناع صنعاء تزيينا وتحسينا، وتنضيدا وتنجيدا، فأحفى «6» عليه «7» في الشرب «8» إحفاء لطف ومسألة، إذ كان قد هجر الشراب وودعه منذ زمان، فلما أخذت الكؤوس مأخذها منهما اقترح إحضار خوارزمشاه، فأحضر وهو «9» يحجل في قيده، ولم يزد في جواب ما سئل عنه وعير به على الإطراق «10»، وسمر الأرض بالحداق «11».
Halaman 130