وتحرك جبور على الصفة فماج كرشه وترجرج، وأبرقت سلسلة ساعته الغليظة المدلدلة على صديريته، فتذكر «الكمر» العتيق الذي أعطاه إياه أبو خليل حلوانا، فشد وسطه به سنين وألقاه عنه في فندق أنطون فارس بمرسيليا، حيث كان يحتفل بإلباس «أولاد العرب» الثياب الفرنجية.
وحكت جبور رجله فانطوى بعناء مزعج، وكاد ينبج بطنه، ولما تبلغ يده رجله، ذكره الجورب الحريري والحذاء اللماع بالمداس الذي يرى إخوته في أرجل معازة الضيعة وبقارتها.
وسمع جبور حس رجل فقال: هذا هو. وحبس أنفاسه يتنصت، فإذا بالحس يبتعد ثم يضمحل، وعاد جبور إلى أحلام يقظته الرائعة، فجره تفكيره بالقادم إلى مئات الليرات التي أعدها برطيلا، فهز برأسه وقال: «هاي ما شا الله هاي، حصلت يا جبور مدير ناحية جبيل فرخ قائمقام، غدا تضع رجلا على رجل في العربة؛ سق يا عربجي. وحد العربجي نفر عسكري يأخذ سلامك، ويخدمك، ويقول لك: هنيئا يا سيدي. يقول لك الناس «يا صاحب العزة»، إن لم يقولوا «سعادتك»، وبعد أن كنت «دحدوح» تصير جبور بك، وإذا أمحلت جبور أفندي.» فتنحنح وأحكم قعدته، ثم أخرج ساعته الذهبية الضخمة وقلب شفته وقال: الغائب عذره معه. والتفت إلى كتفيه لفتة غريبة، فبش ثم عبس؛ عبس إذ رأى كتفه اليسرى نازلة عن أختها، فتذكر الكشة الثقيلة التي رجحتها، وحاول إصلاح ما أفسده الدهر فما قدر، فاعتصم بحمد الله، وتناسى الماضي وقال: «كثر الله خيرك يا ربي، ربيت على معجن هذا وذاك، واليوم صار بيتي مفتوحا للرائح والجائي ... أهلا وسهلا، كلوا يا بشر ، ربك طعمك، كل واطعم.»
ودرى المسكين أنه تمادى في تحديث نفسه فضحك ثم قهقه، لوى رأسه صوب الشمال فبص القلم الذهبي، فقال: وهذه نعمة نشكر الله عليها، صرنا نمضي ونكتب بالهندي، الذكي لا يخاف عليه، يخلص حاله، من رآني يخمن أني تلميذ بولاق.
وجاءته الخادمة بالقهوة فأخذها بلا شعور، ولما اقتربت من الباب ناداها مشيرا بأصابعه الخمس، فبدت يده كالمذرى: من عندنا يا ناهيل؟ - جمهور يا معلمي، الضيعة عندك. قالت هذا وأشارت بيسراها إشارة قلة اكتراث، واستقبلت الباب، فقال: «احم.» فالتفتت، فأومأ إليها، فعادت. - قولي لهم معلمي مشغول جدا، عنده ناس غرباء، وإذا اهتموا، بالغي وزيدي، قولي لهم عنده ناس من قبل الحكومة ومعهم أوراق أوراق، اسقيهم قهوة، اعتذري عني، قدمي لهم سواكير.
وأشعل هو سيكارة من نوع إكسترا إكسترا، فاستطيبها على القهوة، تذكر كيف كان يشحذها من الناس، واحتار جبور كيف يعلل جمعه الثروة الضخمة وهو ذاك الرجل، بينما فلان الفلاني، وهو معلم مشهور، تركه في البرازيل وهو جوعان عريان. «سر، سر عظيم، سبحان الخالق!» هكذا قال. كان يسكن بيتا دون بيوت الضيعة جميعا، فصار بيته قصرا.
وهذا ممن؟ طرح هذا السؤال ثم أجاب عليه بصوت مفخم: من الله، نشكرك يا رب ونحمدك.
وتذكر أنه ينتظر فانبرى يتمشى، وطال الانتظار فسئم وخرج يتنزه، مر أمام بيت الجيران فوقع اسمه في أذنيه؛ سمع امرأة وولدها يتعالجان، فتقول المرأة: جبور رجل ما كان عليه من الخام ريحه، فصار أمير زمانه، بيته قصر، الخيل مربطة قدام بابه، والحكام تزوره، بنات الضيعة ماتت عليه ونقى أحسنهن، كان يتنقل من بيت إلى بيت وقت الغدا والعشا حتى يأكل اللقمة، وصار أغنى الضيعة والجوار. وأنت يا بغل، قاعد على سكين ظهرك تقشط أمك البشلك والمتليك، باب البحر مفتوح، تغرب يا بهيم، الله يقصف عمرك، ما أبلدك! ليتني خلفت جرو كلب وما خلفتك!
فضحك الشاب ضحكة سامة ثارت لها أمه وهاجت، ولكن ضحكته وقعت على جبور كجلمود صخر حطه السيل من عل، وقال الفتى لأمه ساخرا : ومن يعمل مثل جبور؟ عاش بين عبيد أميركا عيشة «نور» وجاء يتبغدد ويتفرعن على الضيعة، هذا مال رائح، مال مول، لا تنغري بالظواهر، رغوه رغوه يا أمي. فصاحت الأم: ليتني أقبرك بجاه السيدة! تفلسف يا جحش. وأتم الشاب كلامه: بعد سنة أو سنتين يعود جبور كما كان.
فصرخت الأم: وإذا صار جبور مثلنا اغتنينا نحن؟ يا حسرتي عليك! بعد يومين ثلاثة يصير جبور مدير جبيل، وتقف له الناس على الصفين. - لو صار متصرف جبل لبنان يظل عندي أقل من دحدوح، قصريها لا تطوليها.
Halaman tidak diketahui