وكان خريجو الجامعات من الشبان يتهافتون على احتراف القضاء أو الطب، وبذلك يتزايد جيش المتذمرين من الاضطهاد الاجتماعي الذي يقضي على طموحهم ويصليهم نار حياة عاطلة غير مجدية، وفي إيطالية أربعة وعشرون جامعة تضم أربعة عشر ألف طالب من أبناء الطبقة الوسطى، وكانت هذه الجامعات في طليعة كل حركة قومية تسيطر على الطبقة المثقفة كما أن حياتها الدموقراطية الحرة كانت تهدم الظروف الاجتماعية، وعليه فإن ارتياب الحكومة منها وإقامة العراقيل في سبيل تقدمها لم يكونا من دون سبب.
حقا إن الجامعات هي التي هيأت العنصر المثقف الذي قاد الحركة القومية فأنجبت لها المفكرين والكتاب والمحاربين، فأساتذة جامعة بولونيه هم الذين قادوا ثورة 1831، وأساتذة جامعة بيزا ويافيه وجنوة وطلابها؛ كانوا روح حركة التطوع التي جندت القسم الأعظم من الألف الغاريبالديين.
وأخيرا نتحدث عن الطبقة الرابعة، وهي طبقة العمال، وهذه لم تختلف حالتها عن حالة الطبقة المتوسطة من حيث الاضطهاد، ومع أن حالتهم من حيث المعيشة والسكنى كانت غير مريحة؛ فإن بساطة الحياة في إقليم معتدل واستقرار التجارة؛ جعلاهم بمأمن من الحاجة، وكان عدد العمال لا يتجاوز الخمسة عشر بالمائة من مجموع النفوس، وكانوا على العموم نشطين أذكياء، وبعضهم مثقفون ذوو مهارة فائقة من البحارة ورؤساء العمال، ففي فنيسيه مثلا كانوا من ذوي الثقافة العالية.
لم تكن إيطالية بلدا صناعيا، ولم تزد المدن التي يتجاوز عدد سكانها المائة ألف نسمة عن الست، ولعل مجموع نفوس العواصم الثماني لا يبلغ المليون نسمة، ويزاول ستون بالمائة من مجموع النفوس مهنة الزراعة، ومع ذلك فإن حالة الزراعة كانت متأخرة، وكثير من الأراضي التي تعد من أخصب أراضي أوروبا كانت موبوءة بالملاريا، فضلا عن الضرر البليغ الذي كانت تلحقه بها الأنهار، ولم تكن غلة الأرض - على العموم - وافرة، إلا إذا استثنينا المراعي الغنية ومزارع الرز في بعض بقاع لمبارديه وبيمونته وحقول الزيتون والكروم والبرتقال في بعض المناطق.
وفي حضيض تلك الطبقات نرى طبقة الدهماء البائسة نسيتها الحكومة، ولم ينتبه إليها الأحرار، وليس ما يخفف من ويلاتها وشقائها سوى صدقات الأمراء والمستشفيات الشهيرة ودور الأيتام، ومن هذه الطبقة الفلاحون في صقلية وفي سهول لمبارديه والقرويون الذين ينوءون بكثرة العمل والحاصدون المتنقلون من بقعة إلى أخرى جريا وراء رزقهم؛ هؤلاء كانوا أتعس حالا من العبيد المستخدمين في الصناعة الإنجليزية ومن القرويين في أيرلندة.
ومن الغريب أن هذا الشقاء الذي ابتلي به أهل الأرياف لم يلفت نظر الأحرار، وأغرب من ذلك أن حركة تستمد قوتها من الطبقة المتوسطة وتقتبس تعاليمها من مدرسة الحرية القديمة؛ تهتم كثيرا بمساوئ الحكومة أكثر من اهتمامها بأحوال البؤساء الاجتماعية ونذكر هنا أن الحكم النمسوي لم يخل من بعض الحسنات كالنظام القضائي الجيد الرفيع، والمدارس الحسنة، أما الحكومة في طوسكانه فكانت قوانينها الجنائية راقية وكانت تأخذ بطريقة التبادل التجاري الحر وتمتاز الحكومة في بيمونته بإدارتها النزيهة المستقيمة.
وليس في إيطالية إذا استثنينا لمبارديه وفنيسيه وبارمه أسلوب للتعليم الوطني، وكانت القوانين في بيمونته ودويلات الكنيسة وفي مودينه؛ مرتبكة، متأخرة، قاسية، تشين سمعة العدالة، وكانت المحاكم الاستثنائية في بيمونته ودويلات الكنيسة تحمي الإكليروس ولكل دولة محاكم سرية تراقب أية بادرة تبدو كمؤامرة سياسية، وكثيرا ما تلجأ في مهمتها إلى التعذيب الروحي والجسماني، وتقف وراء هذه المحاكم السرية تشكيلات السيبري
Sbirri
1
المخيفة الهائلة التي تضطلع بالمسئولية وحدها، وأحيانا مستقلة عن الحكومة إلى حد ما، تبث جواسيسها في المقاهي والمسارح وبين الخدم، وتستغل كراسي الاعتراف في الكنائس والمدارس والبريد؛ لكشف الأسرار، فويل لمن يقع في يدها، فهي تستطيع أن تنهي خدمات الرجل في الجامعة والإدارة والتجارة كما أنها تتمكن من أن تمنعه من السياحة أو أن تحرمه من إرسال أولاده إلى الدراسة في الخارج فضلا عن أنها كانت تستخدم نفوذها لسحق خصومها الشخصيين.
Halaman tidak diketahui