ولعل أسوأ الرذائل جميعا حب النفوذ والسلطان؛ فالشهوة الجنسية لها حد تقف عنده، أما شهوة النفوذ فلا تعرف الحدود. والظروف الحاضرة تشجع على هذه الرذيلة؛ فالأطفال في أوروبا وأمريكا ينشئون على الإعجاب بالرجل الذي يرقى اجتماعيا وبالرجل الذي ينجح في حياته. إنهم يحسدون الغني المشهور، ولكنهم يحترمونه ويطيعون أمره. أو تستطيع بعبارة أخرى أن تقول إن الطمع يعد من الفضائل! إن عالمنا لن يرتقي حتى يعتقد الناس أن الرجل الذي يطمع في السلطان رجل منحط كزميله النهم أو كالبخيل، وإن شهوة السلطان كإدمان الشراب أو الشذوذ الجنسي. الطمع رذيلة من أحط الرذائل. يقول لاروشفوكو: «إن الرجل قد يتخلى عن الحب في سبيل الطمع، ولكنه لا يتخلى عن أطماعه في سبيل الحب.» ومما يزيد المشكلة تعقيدا أن الرذائل النفسية قد تختلط بالفضيلة، حينما يزعم صاحبها أنه يتخذها وسيلة لتحقيق أغراض نبيلة. ولكننا رأينا من قبل أن الغايات الطيبة لا تتحقق إلا بالوسائل الطيبة.
وأنتقل بعد هذا إلى الكلام عن الخير والشر كما يتبينان في دائرة العقل. قلت من قبل: إن الذكاء أحد الفضائل الكبرى، وإن التسامح وغيره من الفضائل الصغرى لا تجدي بغير ذكاء. ويمكن تقسيم الذكاء إلى نوعين بالنسبة إلى الغرض الذي يرمي إليه؛ ذكاء ينحصر في معرفة الأشياء والحوادث التي تقع في العالم الخارجي، وفي القدرة على علاجها. وذكاء ينحصر في معركة مظاهر العالم الداخلي، وفي القدرة على علاجه. أو بعبارة أخرى: هناك ذكاء يتعلق بالنفس وذكاء يتعلق بما لا يمت إلى النفوس بصلة. والرجل الذكي حقا هو الذي يأخذ من نوعي الذكاء بنصيب. ولكن قل من الناس من تستطيع أن تسميه كامل الذكاء؛ فكم من رجل يستطيع أن يتعرض للعالم المحس بالنقد والتحليل، ولكنه عاجز عن فهم الآراء المجردة والعلاقات المنطقية والمشاكل العاطفية والخلقية. وكم من رجل متخصص في علم من العلوم أو في الفن أو الفلسفة، ولكنه يجهل طبيعته ودوافعه الباطنة جهلا فاضحا، ويعجز تماما عن السيطرة على ميوله. الفيلسوف هو الرجل الذي يحب الحكمة ويعيش وفقا لها. كم من فيلسوف يملأ قلبه الحقد والحسد والغرور ... ويقول أحد مؤرخي نيتشه الفيلسوف إنه في الوقت الذي كان يكتب فيه عن الإنسان الكامل كان يعجز عن أن يكبح جماح شهوته إلى الكعك والحلوى، وكان يتناول منها حتى يتخم بها. كان نيتشه مشغوفا بالحلوى، ولكنه يمقت المرض والموت! فهل تستطيع أن تسمي نيتشه إنسانا كاملا؟ ثم إنه كان يرفع فلسفة كانت إلى مرتبة التقديس، وفي تقديس أية فلسفة من الفلسفة نزعة صبيانية. وما نشاهده في نيتشه نشاهده في هجل وغيره من الفلاسفة؛ فهم أذكياء في ناحية، أغبياء في نواح أخرى عديدة. هؤلاء هم من نسميهم الحمقى الأذكياء. ونظامنا التعليمي اليوم يخرج لنا عددا كبيرا منهم، يفهمون العالم الخارجي، ولا يفهمون أنفسهم، أو لا يسيطرون عليها.
ومن هذا ترى أن الخير في دائرة العقل هو ما يعمل على زيادة معرفتنا بأنفسنا. •••
حاولت في هذا الكتاب أن أبحث في مشاكل السياسة الداخلية والدولية، وفي الحرب والاقتصاد، وفي شئون التعليم والدين والأخلاق، وقد قدمت ما هداني إليه الفكر من حلول، ولا أقول إني وفقت كل التوفيق، ولكن المحاولة خير من عدمها في كل حال.
Halaman tidak diketahui