إن رجال التربية الفنيين وعلماء النفس يميلون إلى المبالغة في أثر التدريب في زمن الطفولة، وفي أثر الحوادث التي تمر بالإنسان في باكورة الحياة. ويعزو فرويد كل متاعب الفرد العقلية إلى تجاربه في الصغر. وكان الجزويت يفخرون بأنهم يستطيعون - إذا تولوا أمر الطفل في سن باكرة - أن يخلقوا منه الرجل الذي يريدون. ولكن الجزويت - برغم هذا الزعم - قد تخرج على أيديهم رجال خارجون على الدين ورجال ثائرون، كما تخرج على أيديهم رجال يتبعون أصول الدين. وقد بدأ الكثيرون من علماء النفس يتخلون عن زعمهم بأن جميع الأمراض العصبية ترجع إلى التجارب القاسية التي مرت بالمريض في حداثة العمر، حتى إن يونج يقول: «إن العلاج بالتحليل النفسي كثيرا ما يكون ضارا بالمريض؛ لأنه يضطر إلى أن يبحث في زوايا ذاكرته لمدة تزيد أحيانا على العامين عن حادث وقع له في عهد الطفولة، في حين أن هناك أمورا قريبة العهد ومن الأهمية بمكان لها أثر كبير ولا تنال منه التفاتا.» والواقع أن الإنسان لا يتأثر بماضيه فحسب، إنما يتأثر كذلك بحاضره، وبما يتوقع لمستقبله. إن تجارب الطفولة لا توجه سلوك الرجل الراشد كل التوجيه. وسلوك المرء يمكن - إلى حد ما - أن يعاد تشكيله بتأثير ظروف الحياة في عهد المراهقة والبلوغ. والإنسان حر في إرادته إلى حد ما، ويستطيع أن يعدل من سلوكه باختياره إن أراد، وإن اهتدى إلى الطريق الصحيح. وهذا التعديل قد يكون إلى الخير، كما قد يكون إلى الشر. ونحن كثيرا ما نصب الأطفال في قوالب طيبة وهم في مدارس الحضانة، فإذا ما خرجوا منها إلى المدارس المتقدمة أعيد تشكيلهم في قوالب خبيثة مرذوله. ونلاحظ - برغم الجزويت وفرويد - أن سوء التربية في عهد المراهقة يلغي أثر التربية الحسنة في عهد الطفولة. إننا نربي أطفالنا الصغار على الحرية والذكاء وتحمل التبعات والتعاون الاختياري، في حين أننا نربي الكبار من أطفالنا على قبول التقاليد القديمة بغير جدل، وعلى السيادة إن كانوا من أبناء الطبقة العليا، أو الخضوع إن كانوا من أبناء الطبقة الدنيا. ومن ثم كان نجاح مدارس الحضانة، وفشل المدارس الابتدائية والثانوية،
1
وتدل هذه الحقيقة على أن الغرض من التربية في بلدان غرب أوروبا الديمقراطية غير ثابت أو محدود. إننا نحب أن نحتفظ بالتقاليد القديمة كما نحب أن ندعم أركان الحرية والديمقراطية. ومن أجل هذا ترانا ندرب أطفالنا الصغار على الحرية والحكم الذاتي، ثم يتولانا شيء من الخوف، ونذكر أن مجتمعنا لا يزال يقوم على أساس التسلط والخضوع إلى حد كبير، فنكرس نشاطنا لتعليم كبار الأطفال على أن يكونوا حكاما متسلطين أو محكومين خاضعين. وينبغي أن نلاحظ أن بعض مدارسنا «الحديثة» تغالي في إعطاء الحرية للأطفال، ولكنا يجب ألا ننسى أن الأطفال يحبون أن يشعروا بالحماية، وأن يستندوا إلى قوانين خلقية معروفة؛ ولذا فإن تدريبنا إياهم على الاستقلال والتعاون وتحمل التبعات يجب أن يكون في حدود قواعد الآداب المرسومة إلى حد كبير. يجب أن نتحاشى المبالغة في الناحيتين: المبالغة في منح الحرية مع المسئولية، والمبالغة في التقيد بالقديم، وبخاصة ما كان منه خاطئا؛ لأن التقاليد القديمة قد تكون صالحة في وقت من الأوقات، وغير صالحة في أوقات أخرى، والأطفال قد يطمئنون إلى النظام العسكري، وقد يطمئنون إلى الحرية، ولكن نتيجة التربية لا تظهر إلا في عهد الرجولة.
ويجمل بنا أن نقف هنا متسائلين: هل لو واصلنا نظام التربية في مدارس الحضانة (التربية المؤهلة للحكم الذاتي والتعاون وتحمل التبعات) إلى عهد المراهقة، نستطيع - في الظروف الحاضرة - أن ننجح في ترقية المجتمع والأفراد؟ إننا لا نظن ذلك. ولو أننا أخذنا المراهقين الناشئين على الحكم الذاتي والتعاون وقذفنا بهم في مجتمع قائم على نظام الاستبداد والمنافسة وعبادة النجاح مهما تكن وسائله، لتلاشت تربيتهم المدرسية، واستجابوا للحياة العملية، وحاولوا أن يلائموا بين أنفسهم وبين ظروف الحياة؛ ذلك لأن الحياة متشعبة النواحي. وإصلاح التربية إصلاح لجانب واحد من جوانب الحياة؛ فلا يكفي أن نعدل نظام التربية، ثم نبقي على نظام الحكم والاقتصاد بغير مساس. إننا بذلك لن نبلغ المرمى ولن نصيب الهدف.
فالتربية إذا ليست علاجا ناجعا لجميع العيوب الاجتماعية كما قد يحسب المتحمسون لها، إنها لا تأتي بثمرة طيبة إلا إذا نبتت في ظروف طيبة من نواحي الحياة الأخرى. إنها لا تأتي بثمرة طيبة إلا إذا كانت عقائد الناس صحيحة ومشاعرهم طيبة. وعكس ذلك صحيح: أي إن المعتقدات والمشاعر لن تطيب إلا إن كان هناك نظام صحيح للتربية.
وقد حان الوقت الذي ينبغي أن نسأل فيه أنفسنا هذا السؤال: ما هي التربية الصحيحة؟
في الأشهر الأولى والسنوات الأولى من حياة الطفل تكون التربية بدنية أكثر من أي شيء آخر، ويقوم البيت مقام المدرسة. وللتربية المنزلية الأولى كذلك أثر كبير في الحياة العاطفية. أما التربية الخلقية والعقلية فلا تأتي إلا في سن الطفولة المتأخرة. ولا يمكن الفصل بين التربية الخلقية والعقلية، ولكنا سنضطر إلى ذلك اضطرارا لتسهيل البحث وزيادة الإيضاح، ولنبدأ بهذا السؤال: ما هي التربية الخلقية الصحيحة؟ لنذكر دائما أن الهدف الذي ترمي إليه هو تنشئة الناس على حب الحرية والعدل والسلام. فما السبيل إلى ذلك؟ قال برتراند رسل في كتابه الحديث «أين السبيل إلى السلام» ما يأتي: «لقد ارتقت المدارس كثيرا في القرن الحاضر وبخاصة في البلدان الديمقراطية. أما في الدول التي قامت فيها الدكتاتورية العسكرية - بما فيها الروسيا - فقد تأخرت كثيرا في السنوات العشر الأخيرة، وعادت إلى النظام الصارم في التربية، وإلى إخضاع الطلبة لمعلميهم إخضاعا مذلا مشينا. كما أنها اتبعت في التعليم الطرق السلبية دون الإيجابية (أي أن يفرض العلم على الطالب فرضا، ولا يطلب إليه أن يبذل جهدا في تحصيله). ويرمي أولو الأمر من وراء ذلك إلى خلق العقلية العسكرية التي لا تعرف غير السيطرة أو الخضوع، والتوحش أو الجبن ... فالحكام المستبدون في هذه البلاد يدركون العلاقة بين التربية النظامية في المدارس، وحب القتال في سن الشباب والرجولة.»
وتعرضت الدكتورة منتسوري لنفس الموضوع في كتيب صغير أصدرته حديثا، جاء فيه: «إن الطفل الذي لم يتعلم قط أن يعمل وحده، وأن يوجه أعماله بنفسه، وأن يتحكم في إرادته، يصبح - وهو راشد - سهل الانقياد، معتمدا على غيره في كل الأمور. إن الطفل الذي لا يلقى في المدرسة تشجيعا وإنما يتلقى الإهانة تلو الإهانة، ينشأ على عدم الثقة بنفسه وعلى الخوف الذي يسمى خجلا، والذي يتخذ فيما بعد - في سن الرجولة - صورة الخضوع والجبن. إن الطاعة التي نتطلبها من الطفل في البيت والمدرسة - وهي طاعة لا يبررها عقل ولا عدالة - تجعل منه رجلا يخضع للقوة العمياء بغير جدل. كما أن العقوبة الشائعة في كثير من المدارس التي تقضي بتقريع المذنب علنا أمام قرنائه، تملأ النفس بخوف شديد من الرأي العام، وهو خوف لا يقوم على أساس من العقل، حتى إن كان الرأي العام واضح الظلم والخطأ. وهذه الظروف التي تخلق في النفس عقدة نقص ثابتة تولد روح الإخلاص - بل العبادة - للزعماء.» وكانت تستطيع الدكتورة منتسوري أن تضيف إلى ذلك أن عقدة النقص كثيرا ما تجد منفذا للتعبير عن نفسها في الوحشية والقسوة لتعويض النقص. إن التربية التقليدية تدريب على الحياة في مجتمع عسكري يتسلط فيه الأفراد بعضهم على بعض، مجتمع يخضع فيه الناس خضوعا مذلا لكل من هم أعلى منهم وأرقى، ويقسون على من دونهم قسوة لا هوادة فيها ولا رحمة. والعبد يعوض شعوره بالذلة بتسلطه على من دونه من عبيد.
وفي ضوء هذين الاقتباسين نستطيع أن نفهم بشكل أكثر وضوحا لماذا سار التاريخ في مجراه الذي يسلكه في السنوات الحديثة. إن تقوية الروح العسكرية والقومية، ونشوء الدكتاتورية، وانتشار الحكم الاستبدادي على حساب الحكم الديمقراطي - كل هذه ظواهر كغيرها من حوادث التاريخ لها أسباب متنوعة متداخلة. وأبرز هذه الأسباب - من غير شك - الأسباب الاقتصادية والسياسية، ولكن هناك إلى جانب هذه الأسباب أسبابا أخرى تعليمية وسيكولوجية. وينبغي أن نذكر من بينها خضوع الأطفال في خلال الستين سنة الأخيرة لنظام مدارس الدولة الصارم الاستبدادي. أجل، لقد كان نظام الأسرة جد صارم في عصور مختلفة من التاريخ وبين طبقات معينة من الناس، ولكن نظام التربية لم يكن في عهد من العهود مثلما هو عليه اليوم في البلدان الدكتاتورية خاصة، ومهما يكن نظام الأسرة صارما فلن يبلغ أثره مبلغ ما ينجم عن النظام الذي يخضع مدارس الدولة بأسرها للجد والصرامة. ومما يدل على أن التربية في العصر الحاضر تعمل على تربية الروح العسكرية أن أبناء الأغنياء الذين تطول مدة دراستهم يكونون أشد ميلا إلى الحرب من أبناء الفقراء الذين يقضون في المدارس سنوات معدودات. ويترتب على ذلك أن نشر التعليم بين الطبقات الفقيرة وإطالة مدة الدراسة يؤدي إلى تعزيز الروح الحربية وانهيار الديمقراطية.
وكان رجال التربية السابقون يعتقدون أن تعميم التعليم الأولي والابتدائي والثانوي - إن أمكن - ينهض بمستوى الأمة، ويمهد الأذهان للديمقراطية. غير أن آمالهم لم تتحقق لأن المدارس لم تعلم الأطفال الحرية والحكم الذاتي، بل علمتهم الذلة والخضوع. والغايات الطيبة - كما ذكرت من قبل - لا تتحقق إلا بالوسائل الطيبة. إن الحق أبلج، ولكننا لا نحب أن نسلك طريقه، ومن أجل ذلك تورط العالم في هذه المآزق التي لا يجد اليوم منها مهربا.
Halaman tidak diketahui