وهناك جماعات أخذت على عاتقها ألا تشترك في أية حرب مقبلة . ومن هذه الجماعات ما هو قائم اليوم بالفعل، مثل الجماعة الدولية لمقاومة الحرب، واتحاد السلام، ولكن هذه الجماعات لا تزال مفككة، أعضاؤها كثيرون مشتتون؛ بحيث لا يمكن اعتبارها جماعات بالمعنى الذي بيناه. وهي - برغم ذلك - تقوم بخدمات هامة جدا للقضية التي يجاهد من أجلها المصلحون؛ فهم في أحاديثهم الخاصة وفي خطبهم في المجتمعات العامة وفي المقالات التي ينشرونها في الصحف دعاة لمبدأ اللين. وقد انبث بين العامة هذا المبدأ - إلى حد كبير - بتأثير هذه الجماعات. وأخذ الكثيرون يعتقدون أن هناك وسيلة أخرى للكفاح غير الثورة والحرب والعنف وضروب الوحشية المختلفة - وتلك هي المقاومة السلبية.
إن الجماعات التي تقاوم الحرب إذا كان عدد أفرادها معقولا، وإذا كانت عند اشتداد الأزمات متحدة في الرأي متفقة، تستطيع أن تمنع الحكومة من إخراج الجيش إلى القتال. وقد حدث هذا فعلا سنة 1920 حينما أرغم «مجلس العمل» لويد جورج على أن يتراجع عن تهديده السوفيت بالهجوم. ولكن هذه الجماعات لا تزال إلى الوقت الحاضر ضعيفة ليس بوسعها أن تقف في وجه الحكومة إن هي أرادت أن تعلن الحرب، وتبررها بأنها حرب دفاعية، أو حرب لإنقاذ الديمقراطية، أو لمناهضة الفاشستية، أو لحسم النزاع وإنهاء القتال. غير أن هذه الجماعات - برغم هذا كله - تستطيع أن تعرقل عمل الحكومة ولو إلى حد.
ويزعم بعض كبار المفكرين أن أسباب الحرب اقتصادية قبل كل شيء، وأن الحرب - بناء على ذلك - لا غنى عنها إلا إذا نحن أدخلنا على النظام الاقتصادي السائد تعديلا شاملا؛ ولذلك يرى هؤلاء أن سياسة مقاومة الحرب من جانب الأفراد سياسة غير مجدية؛ وهم لذلك يقترحون بدلها الاشتراكية أو إصلاح نظام النقد. ولكن الاشتراكية وإصلاح نظام النقد كليهما لا يكفل لنا امتناع الحروب، بل قد يؤديان إلى تقوية الأمة اقتصاديا إلى حد يثير المخاوف في الأمم الأخرى وينتهي بالنزول إلى ساحة القتال.
ومن ثم ترى أن أولئك الذين يقاومون الحرب، أفرادا وجماعات، عليهم دور هام لا بد من أدائه في المستقبل القريب. وليس معنى هذا أن إصلاح النظام الاقتصادي أو نظام النقد أمر لا ضرورة له، بل هو على النقيض من ذلك من الأمور التي لا غنى عنها، وقد يعاون في النهاية على استتباب السلام. ولكن العاطفة القومية لا تزال قوية في النفوس؛ ومن ثم فإن الإصلاح الاقتصادي والمالي قد يزيد من تحاقد الدول واحتمال وقوع الحرب؛ فمن واجب الفئة التي تقاوم الحرب، أفرادا وجماعات، أن تمنع - إن استطاعت - التعديل الاقتصادي والمالي من أن ينتهي بالنزاع الدولي ثم بالقتال.
ويلاقي المبشرون بسياسة اللين مقاومة شديدة من الحكومات التي ينتمون إليها؛ ولذا فهم مضطرون في كثير من البلدان إلى العمل سرا، ولكن البوليس السري الحكومي المنظم يستطيع في كثير من الأحيان أن يطاردهم. ووسيلتهم الوحيدة بعد هذا هي الدعوة إلى سياسة عدم التعاون مع الحكومة وإلى العصيان المدني. ويدعوهم هذا إلى نشر مبدأ المقاومة السلبية على نطاق واسع؛ لأن العصيان المدني لا يصلح إلا إذا قام به مجموع الأمة. أما الثورات فيمكن في الوقت الحاضر وبالوسائل الحديثة قمعها في الحال. فإن كان الثائرون مسلحين تسليحا قويا انقلب الأمر إلى حرب أهلية كما حدث في إسبانيا. ولا يرجى من الحرب الأهلية خير؛ ولذا فإن سبيل الخلاص الوحيد هو المقاومة السلبية، فهي تستطيع - إن هي نظمت - أن تتغلب على أقوى الدكتاتوريات، لأن الدكتاتورية - أو أية حكومة أخرى - إن لجأت إلى الشد فقدت عطف الجمهور، وهي أشد ما تكون حاجة إليه. غير أن تأليف جماعات المقاومة السلبية عسير في البلدان الدكتاتورية؛ ولذا فلا أمل في تأسيسها إلا في البلدان الديمقراطية التي يباح فيها للأفراد حرية الاجتماع، وحرية الرأي، والاستقلال عن تدخل الدولة إلى حد كبير.
وليست الشرطة وحدها هي وسيلة الحكومات في اضطهاد هذه الجمعيات ومطاردتها؛ فإن الحكومة تستغل الصحافة والإذاعة، وستستغل التلفزيون في المستقبل القريب، وتتخذ منها جميعا وسائل للتأثير في الرأي العام وضمه إلى جانبها.
وإذا فالواجب الأول للجماعات - كما ذكرت - هو إقرار السلام باتباع وسائله فعلا، وببث هذه الوسائل بين الناس. أما الواجب الثاني فهو أن تعالج الجماعة نفسها ، وأن تحاول علاج العالم بأسره بعد ذلك، من التكالب على المال والنفوذ. وعلى هذه الجماعات أن تفكر في الإصلاح الاقتصادي مع مراعاة ضرورة بقاء رءوس الأموال، ووجود الآلات، واستحالة التخلص منها. وليس لهذه الجماعات أن تفر من التفكير في الاقتصاد، كما كانت تفعل قديما؛ إذ كانت تترفع عن التفكير فيه، في حين أنها تعيش على مجهود غيرها وعمله.
ولا يكفي أن يتصف أفراد الجماعة بطيب القلب؛ فالعالم لم يخل من القديسين الذين طابت قلوبهم، ولكنهم عجزوا عن الإصلاح، إما لغبائهم أو لجهلهم. وقل من القديسين من كان عالما أو منظما اجتماعيا، والعالم قد لا يكون مصلحا والمصلح قد لا يكون عالما. وإصلاح العالم يتطلب الجمع بين الطرق العلمية وحسن النية والإخلاص. ولا ينفع أحدهما وحده للسير بالعالم في طريق الخير. وفي الظروف الاقتصادية الحاضرة لا يمكن لجماعات الإصلاح أن تؤدي عملها كاملا إلا إذا تدخلت في شئون الصناعة والزراعة. ويتطلب منها ذلك أن تساهم في رءوس الأموال حتى يكون لها نفوذ كاف، فإذا توفر لها هذا النفوذ كان من واجبها أن تحل لنا كل مشاكل الاجتماع والاقتصاد، ومن أمثلة هذه المشاكل ما يأتي: (1)
على الجماعة أن تبين لنا خير الطرق للجمع بين استقلال العمال وحكمهم أنفسهم حكما ذاتيا وبين الكفاية الفنية - أي أن يتمتع العمال بالحرية ويتحملوا التبعة مع بقاء الإدارة العلمية مركزة في أيدي من يستطيعون القيام بها. (2)
عليها أن تبين لنا خير سبيل لتنويع أعمال الفرد، بحيث نبعد عنه الملل ونزيد من صلته الثقافية بغيره من الأفراد الذي يعملون في جماعات أخرى مستقلة عليها تبعاتها الخاصة. (3)
Halaman tidak diketahui