وقد أثبت التاريخ أن قوة اللين تتغلب على الشر وتغلب الغضب والبغضاء. وقد نجحت سياسة اللين في حل مشاكل الجنون والإجرام والتوحش في القرن التاسع عشر. وقد كانت من قبل من المشاكل التي لا تحل. وكانت القسوة على المجانين تؤدي إلى زيادة جنونهم، وكان المجانين في غرب أوروبا حتى عام 1840 يعاملون كأنهم مجرمون ، ولكن الأمر تبدل في منتصف القرن التاسع عشر، وأخذ الأطباء يعاملون المجانين بالعطف والشفقة.
وقصة إصلاح السجون شبيهة بقصة إصلاح مستشفيات المجانين. وقد بحث جون هوارد في النصف الثاني من القرن الثامن عشر حالة السجون في أوروبا فوجد أن سجون أمستردام في هولندا هي خيرها وأحسنها معاملة للمساجين، وأن الجرائم في هولندا - من أجل ذلك - أقل منها في أي بلد آخر. كانت السجون بيوتا للتعذيب تنحط فيها أخلاق السجين البريء، ويصبح فيها المجرم أشد إجراما. ولم تصلح السجون إلا في القرن التاسع عشر. وما تزال هناك بقية من المعارضين للإصلاح، ولكن هؤلاء - في الواقع - يريدون أن يروا غيرهم مجرمين مذنبين، كي تظهر إلى جانبهم فضيلتهم وطهارتهم، وبعضهم - فوق ذلك - يستمد اللذة من آلام الآخرين. ولكن السجون - برغم هؤلاء - قد أصلحت إصلاحا كبيرا. ولم يقف الإصلاح إلا في الدول الدكتاتورية؛ وذلك لأنها لا تقوم على مبدأ التسامح، وإنما تقوم على مبادئ الشدة والقسوة.
وقد اكتشف حكام المستعمرات، وعلماء الإنسان، ما اكتشفه من قبل طبيب الأمراض العقلية، ورؤساء السجون. اكتشفوا أن اللين المنظم المعقول هو السياسة العملية التي تؤدي إلى خير النتائج. واستطاع علماء الإنسان بحسن معاشرة المتوحشين أن يكسبوا صداقتهم، فيعلموا عن طرق تفكيرهم ومشاعرهم الشيء الكثير. وكذلك تعلم المستعمرون من علماء الإنسان أن اللين أجدى من العنف وأنفع.
وكما أن سياسة اللين أجدى الوسائل في علاقة الأفراد بالأفراد، فهي كذلك في علاقة الأهالي بالحكومات. وقبل أن نذكر أمثلة لذلك يجمل بنا أن نعيد النظر بإيجاز في موضوع سبق أن تعرضنا له في فصل سابق، وذلك هو النتائج التي تنجم عن محاولة تنفيذ الإصلاح بالعنف. يدل التاريخ دلالة واضحة على أن الثورة إذا اصطحبت بالعنف الشديد لا تؤدي إلى النتائج التي يرمي إليها مؤججوها، وإنما تؤدي إلى نتائج العنف السيئة المعروفة؛ فالثورة الفرنسية مثلا بعد حكم الإرهاب انتهت بدكتاتورية نابليون العسكرية. كما أن رغبة فرنسا في التوسع الاستعماري انتهت بتقوية الروح القومية في الدول الأوروبية، وبالاستعباد العسكري، والتجنيد الإجباري، والمنافسة الاقتصادية الحادة بين الأمم. وفي الروسيا كان الغرض الأساسي للثائرين أن يتمتع المجتمع بأكبر قسط من الحكم الذاتي في جميع نواحي النشاط. غير أن حكام البلاد لجئوا إلى وسائل العنف التي ورثوها عن النظام القيصري العتيق، فماذا كانت النتيجة؟ إن الروسيا الآن دولة دكتاتورية، الحياة العسكرية والاقتصادية فيها شديدة التركيز، وحكومتها أوليجاركية تستغل وسائل البوليس السري والتجنيد الإجباري والرقابة على المطبوعات والدعاية القوية؛ وذلك لإخضاع الناس والسيطرة عليهم.
ولنذكر بعض الأمثلة لزيادة الإيضاح، ولنبين للناس أن الثورة التي تسلك سبيل اللين وعدم العنف تكون ثورة ناجحة. ولعل أشهر الثورات من هذا القبيل تلك التي نظمها غاندي في جنوب إفريقيا أولا، وفي الهند ثانيا. وقد نجحت حركة جنوب إفريقيا كل النجاح؛ فألغي قانون التمييز بين الهنود والأوروبيين سنة 1914. وكان ذلك الإلغاء نتيجة للمقاومة السلبية وعدم التعاون من جانب السكان الهنود. وكذلك نجح غاندي في الهند إلى حد كبير. وتبين أنه من الممكن لجماعات كبيرة من الرجال والنساء أن يتدربوا على مقابلة المعاملة الوحشية بهدوء النفس وكرم الأخلاق، مما يكون له أثر كبير في نفوس الظالمين. وقد أحرزت هذه الجماعات إعجاب العالم بأسره، ونجح غاندي في تدريب عدد كبير على المقاومة السلبية في زمن وجيز. وقد نجحت في مصر في العهد الحديث حركة المقاومة السلبية وعدم التعاون مع بريطانيا.
من وسائل عدم التعاون الناجحة المقاطعة التجارية التي استخدمها الصينيون ضد البضائع الإنجليزية بعد ما قتل الجنود الإنجليز بعض الطلبة الصينيين، والتي استخدمها في الهند أتباع غاندي.
ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة لفائدة الوسائل اللينة في علاقات الأفراد بالأفراد، وفي العلاقات بين مجموع السكان والحكومات. والآن لننظر في فائدة اللين إذا اتخذ وسيلة للتفاهم بين الحكومات.
من العجيب أن العالم يقر نوعين مختلفين من الأخلاق، نوعا خاصا بعلاقات الأفراد، وآخر خاصا بالأمم والجماعات؛ فالرجل قد تلقاه في حياته الخاصة أمينا رحيما يراعي شعور غيره من الناس، ولكنه يعتقد أن من حقه - حينما يكون ممثلا لجماعة - أن يخرج على هذه القواعد النبيلة. والأمة في خيالنا تتجسد - كما رأينا - في صورة إنسان أعلى من الإنسان العادي في القوة والمجد، ولكنه أحط منه في الأخلاق؛ فلا نتوقع منها إلا أن تسلك السبل الدنيئة. ولما كان الأمر كذلك، فليس لنا أن نعجب إذا ندرت الأمثلة التي تسلك فيها الدول سلوكا مبنيا على سياسة اللين؛ فكلما كان موضوع النزاع هاما أطلقت الأنانية القومية لنفسها العنان، وتعذر الصلح بين الأمم.
لقد تحدثت طويلا عن سياسة اللين حتى بعدت عن الموضوع الرئيسي. ولكني أرى ذلك أمرا لا مندوحة عنه؛ لأن اللين كثيرا ما يعتبر وسيلة غير عملية لتحقيق الأغراض، أو على الأقل وسيلة لا يستطيع استخدامها إلا القادرون من الرجال والنساء؛ ولذا رأيت من الضروري أن أبين أولا أن اللين وسيلة عملية نافعة، وثانيا أنه يمكن للأفراد العاديين أن يستخدموه. بل إن الملوك والسياسيين وممثلي الأمم أنفسهم يستطيعون استخدامهم بصفتهم الرسمية. (ويلاحظ أن هذه الفئة من الرجال قد تكون منحطة خلقيا في ساعات العمل، ولكنها من أرقى الطبقات خلقا في ساعات الفراغ.) إن الجماعات التي ترغب جادة في الإصلاح لا بد لها من التدريب المنظم على السلوك اللين في جميع علاقات الحياة - العلاقات الشخصية، والعلاقات الاقتصادية، وعلاقات الجماعات بالجماعات، أو الجماعات بالحكومات. ومما يكفل لأعضاء الجماعات أن يتحلوا باللين أن ينظم البناء الاجتماعي للمجتمع بحيث لا يستهوي الأفراد حب النفوذ والسلطان. وكذلك يجب أن يدرب الأفراد على كبح الخوف والغضب والبغضاء في نفوسهم. إن العضو في الجماعة كما نريدها يجب أن يقابل العنف باللين والشجاعة والإقدام. وسنعالج وسائل تدريب الأفراد على ذلك في فصل آت.
وعلى الأفراد المدربين واجبان أساسيان. عليهم أولا أن يجعلوا حياة الجماعة في مستوى أعلى من مستوى حياة المجتمع المحيط بها. وبذلك يكون منهم لهذا المجتمع نموذج رفيع من التنظيم الاجتماعي. وعليهم ثانيا «أن يخرجوا إلى العالم» حيث تنفعهم كفايتهم المدربة في تهدئة العنف إذا اشتعلت نيرانه، وفي تنظيم المقاومة السلبية للظلم الداخلي وللاستعداد لشن الحروب.
Halaman tidak diketahui