القاعدة الأولى:
للإصلاح - كما ذكرنا من قبل - أننا يجب ألا ندخل على المجتمع أي تعديل إلا إن كان ضروريا جدا. فإن أردنا أن نصلح جماعة رأسمالية متقدمة، فما هو التعديل الذي لا يسعنا إلا أن ندخله؟ الجواب على هذا السؤال يسير واضح: إن التعديل الضروري الذي لا مناص منه لا بد أن يعالج إدارة الإنتاج الكبير، وإدارة هذا الإنتاج في العصر الحاضر تنحصر في أيدي أفراد غير مسئولين، كل همهم أن يضاعفوا أرباحهم، وكل وحدة إنتاجية كبيرة مستقلة تمام الاستقلال عن باقي الوحدات، وليس بين الوحدات اتحاد من أي نوع كان. وهذا التفكك القائم بينها هو الذي يؤدي إلى الأزمات الاقتصادية التي تحل بنا بين الحين والحين، وتنشأ عنها صعوبات جمة للطبقات العاملة في الأمم الصناعية. إن الإنتاج الصغير الذي يتولاه أفراد يملكون الآلات التي يستخدمونها بأنفسهم لا يتعرض لمثل هذه الأزمات التي يعانيها الإنتاج الكبير الفينة بعد الفينة، وللإنتاج الصغير - فوق ذلك - ميزة أخرى، وتلك هي أن الملكية الشخصية لوسائله لا تتبعها عواقب سياسية أو اقتصادية أو سيكولوجية وخيمة كتلك التي تترتب على الإنتاج الكبير - مثل استعباد صاحب العمل لعماله، وخوف العمال الدائم من خطر التعطل، واعتمادهم المطلق على أرباب الأعمال؛ ولذا فإني أرى أن نصبغ إدارة وحدات الإنتاج الكبير بالصبغة الاشتراكية، وأن نبقي على وحدات الإنتاج الصغير دون مساس. بذلك يمكننا أن نحتفظ بالفردية في العمل، وأن يبلغ الاعتراض على إصلاحنا الذي نريده حده الأدنى.
والقاعدة الثانية:
التي وضعناها للإصلاح هي ألا نحاوله البتة إذا كان يحتمل أن يثير المعارضة. ولنفرض على سبيل المثال أن الزراعة الجمعية أكثر إنتاجا من الزراعة الفردية، وأن الفلاح الذي يعمل في مزرعة جمعية هو من الوجهة الاجتماعية خير حالا من الفلاح الذي يملك أرضه ويدير أمرها بنفسه. إذا سلمنا بهذا كان إلغاء الملكيات الفردية أمرا لا بد منه. ولكن هذا الإصلاح - رغم أنه قد يكون مستحبا - لا ينبغي تنفيذه إلا إن كان ذلك تدريجا وبخطوات بطيئة. إنا إذا نفذنا هذه السياسة دفعة واحدة فإنا بذلك من غير شك نثير معارضة عنيفة تفتضينا استخدام العنف والشدة. إن إلغاء الملكيات الفردية في الروسيا وإخضاعها للنظام الجمعي اقتضى الحكومة أن تحكم على عدد كبير من الفلاحين المالكين بالسجن والإعدام والحرمان والجوع. ومن المحتمل أن يكون المعارضون المعروفون اليوم (1937) هناك باسم تروتسكيت
Trotskyite
شديدي الحقد على الحكومة لهذا ولغير هذا من أعمال الإرهاب. إن إقماع المعارضة يتطلب من الحكومة أن تلجأ إلى وسائل العنف، كما يتطلب منها على حد تعبير الأستاذ لاسكي تعزيزا ل «الدكتاتورية الحديدية». ووسائل العنف هذه والدكتاتورية الحديدية لا يمكن إلا أن تنتهي بالنتائج الطبيعية للوحشية والاستبداد - وتلك هي استعباد الناس وبث الروح العسكرية فيهم، وإخضاع الشعب وإذلاله وتخليه عن الشعور بالتبعات. والزراعة الجمعية أشد خطرا في البلدان الغربية المتقدمة في الصناعة منها في الروسيا؛ فإن المزارعين والفلاحين في أوروبا الغربية وفي أمريكا أقل عددا من سكان المدن. ولما كانوا قلة ملحوظة فإن لكل فلاح قيمته. فإذا نحن اكتسبنا عداوة هذه الأقلية التي لا غنى لنا عنها قل إنتاجها الزراعي، وربما كان في ذلك هلاك سكان المدن. يستطيع أولو الأمر في الروسيا أن يقضوا على حياة بضعة ملايين من الفلاحين دون أن يتأثر بذلك سكان المدن. أما في فرنسا أو ألمانيا أو إنجلترا أو الولايات المتحدة فإن إهلاك العدد اليسير من الفلاحين والمزارعين يقضي على عمال المدن جوعا.
والقاعدة الثالثة:
للإصلاح هي ضرورة إنجازه باستخدام الوسائل التي ألفها الناس من قبل. وسنذكر هنا أمثلة قليلة محسوسة للوسائل التي نستطيع أن نتخذها لتعديل نظام الرأسمالية. تستطيع الحكومة أن تضع حدا للأرباح، وقد طبقت الحكومة البريطانية بالفعل هذا المشروع في شركة الإذاعة البريطانية. ويمكننا أن نعمم مبدأ تحديد الأرباح في جميع ميادين العمل والتجارة. وتستطيع الحكومة كذلك أن تلجأ إلى مبدأ تعاون المستهلكين وتعاون المنتجين؛ فهو مألوف للناس وليس بجديد عليهم. وإذا عرجنا على نظام الضرائب رأينا أن الأغنياء في أكثر الدول قد قبلوا عن رضى أن يدفعوا ضريبة الدخل وضريبة الميراث. فما يمنع الدول الأخرى أن تفرض هذه الضرائب كي تخفف من حدة المفارقات الاقتصادية بين الأفراد والطبقات؟ وتستطيع الدولة كذلك أن ترفع من أجور العمال، وأن تتولى هي بنفسها الإشراف على تنظيم مصانع الإنتاج الكبير وأمواله، بدلا من أن يتولاه الأفراد.
لقد تحدثت فيما سلف عن الإصلاح القومي، وإني ما زلت أشعر أن المشكلة بحاجة إلى زيادة الشرح والإيضاح لأننا - من الوجهة العملية - لا نستطيع أن نفصل أي نوع من أنواع الإصلاح عن جوه الإداري والحكومي والتعليمي والنفسي. إن الشجرة تعرف بثمارها، وثمار أي إصلاح معين تتوقف كما ونوعا على جو الإصلاح بقدر ما تتوقف على نوع الإصلاح ذاته، كما أن الفاكهة تتوقف عددا وجودة على نوع الشجرة التي تنبتها كما تتوقف على الجو الذي تنبت فيه وتترعرع. إن فائدة الإصلاح لا تتحقق إلا إن كان الجو الاجتماعي من إدارة وحكومة وتعليم وغير ذلك جوا صالحا لا فساد فيه.
خذ مثالا لذلك الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج. هذا الإصلاح في حد ذاته معناه تحرير العمال المستعبدين، ولكن هذا التحرير - في الروسيا المعاصرة - ينمو في جو فاسد مكوناته استيلاء السلطات الحاكمة على المصانع والمزارع الكبيرة، والتربية العسكرية في المدارس، والتجنيد الإجباري في الجيش، واستبداد دكتاتور حاكم تؤيده أوليجاركية من حزبه، وتؤازره البيروقراطية ذات الامتيازات، وهو يسيطر على الصحافة والنشر، ويستخدم قوة كبيرة من رجال البوليس السري. إن الملكية الاشتراكية لوسائل الإنتاج لا شك تنقذ العمال من خضوعهم التام لكثير من صغار الدكتاتوريين - وأعني بهم ملاك الأراضي، وأصحاب الأموال، وأرباب المصانع الكبيرة، ومن إليهم، فليسوا إلا كذلك. ولكن إذا كان جو هذا الإصلاح (الطيب في حد ذاته) فاسدا، فلن يظفر العمل بتلك الحرية التي ننشدها لهم، ولكنهم يعانون نوعا جديدا من الاسترقاق السلبي الذي لا يحملهم تبعة من التبعات. أجل إننا بهذا الإصلاح ننقذهم من ظلم كثير من صغار الدكتاتوريين الذين أشرنا إليهم، ولكننا نضعهم تحت وكلاء دكتاتورية واحدة مركزة أقوى من الدكتاتورية الأولى أثرا؛ لأنها تستغل القوى المادية، ويؤيدها نفوذ أدبي يكاد يكون مقدسا، وذلك هو نفوذ الدولة القومية.
Halaman tidak diketahui