Warathat al-Anbiya (The Inheritors of the Prophets)
ورثة الأنبياء
Penerbit
دار القاسم
Genre-genre
المقدمة
الحمد لله الذي جعل في كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (١)، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فلما هجر العلم الشرعي علمًا، وتعلمًا، وضعفت همم الناس وقصرت دون السعي له. جمعت بعض أطراف من صبر وجهاد علمائنا في طلب العلم، والجد فيه والمداومة عليه، لنقتفي الأثر ونسير على الطريق.
وهذا هو الجزء الخامس عشر من سلسلة «أين نحن من هؤلاء؟» تحت عنوان «ورثة الأنبياء؟».
أدعو الله ﷿ أن يجعل لنا نصيبًا من علمهم وصبرهم وحسن عملهم، وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
عبد الملك بن محمد عبد الرحمن القاسم
_________
(١) مقدمة الإمام أحمد في الرد على الزنادقة والجهمية.
1 / 3
مدخل
لقد أثنى الله ﷿ على العلم وأهله، ورتب لمن سار في طريقه الأجر والمثوبة ورفع الدرجات في الدنيا والآخرة. ومن إكرام الله ﷿ للعلماء استشهاده بهم على أعظم مشهود به وأجله وهو توحيده، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة.
قال الله ﷿: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ (١).
قال الإمام القرطبي ﵀: في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم، فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن العلماء (٢).
ورفع الله جل وعلا درجة المؤمنين العالمين فوق درجة جهلة المؤمنين (وفي كل خير) فقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ (٣).
قال الشوكاني: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ﴾ في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيهما ﴿وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ أي: ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، ومعنى الآية: أنه يرفع الذين آمنوا على من لم يؤمن درجات، ويرفع
_________
(١) سورة آل عمران، الآية: ١٨.
(٢) الجامع لأحكام القرآن ٤/ ٤١.
(٣) سورة المجادلة، الآية: ١١.
1 / 5
الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا درجات، فمن جمع بين الإيمان والعلم رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات (١).
ولاشك أن ذلك من فضل الله وإحسانه ومنه وعطائه ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَّشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (٢).
ولاختلاف تلك المنازل والدرجات فإن الله ﷿ نفى التسوية بين أهل العلم والعوام، فقال عز من قائل عليمًا: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (٣).
وعن المنزلة الرفيعة والمكانة العلية لأئمة الهدى ومصابيح الدجى قال ابن عباس ﵁: للعلماء درجات فوق المؤمنين بسبعمائة درجة، ما بين الدرجتين مسيرة خمسمائة عام (٤).
وقدم جل وعلا العلم قبل العمل؛ لأن العلم هو الدليل الذي يهدي إلى المراد، فقال ﵎: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (٥).
وروي عن زيد بن أسلم ﵁ في تفسير قوله تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ﴾ (٦)، قال: بالعلم؛ لأن الله لم يأمر نبيه ﷺ بطلب الازدياد من شيء إلا من العلم (٧).
_________
(١) فتح القدير ٥/ ٢٣٢.
(٢) سورة الحديد، الآية: ٢١.
(٣) سورة الزمر، الآية: ٩.
(٤) الإحياء ١/ ١٥.
(٥) سورة محمد، الآية: ١٩.
(٦) سورة الأنعام، الآية: ٣٨.
(٧) فتح الباري ١/ ١٤١.
1 / 6
وفي ذلك قال الله ﷿ مخاطبًا نبينا محمدًا عليه أفضل وأزكى التسليم: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (١).
وقال ﷺ مبينًا مكانة العلماء: «العلماء ورثة الأنبياء» (٢) ومعلوم أنه لا رتبة فوق النبوة، ولا شرف فوق الوراثة لتلك الرتبة (٣).
وبين ﷺ حالة طالب العلم وفضل طلب العلم على غيره من نوافل العبادات، فقال ﷺ مخاطبًا أبا ذر: «يا أبا ذر! لأن تغدو فتعلم آية من كتاب الله خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتعلم بابًا من العلم عمل أو لم يعمل به خير من أن تصلي ألف ركعة» (٤).
وقال ﷺ: «من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاء بما يطلب، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر» (٥).
قال ابن رجب: يعني أنهم ورثوا ما جاء به الأنبياء من العلم، فهم خلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته، والنهي عن معاصي الله والذود عن دين الله.
_________
(١) سورة طه، الآية: ١١٤.
(٢) من حديث رواه أحمد والترمذي.
(٣) الإحياء ١١/ ١٦.
(٤) رواه ابن ماجه بإسناد حسن كما قال المنذري.
(٥) رواه أحمد وابن حبان.
1 / 7
ولعظم أمر العلم وأهميته الدنيوية والأخروية في حياة الفرد والمجتمع هذا رسول الله ﷺ يبين فضله وعظم منزلته بقوله: «إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير» (١).
ويبين لنا الرسول ﷺ أن العالم الذي ينشر علمه ويعلمه الناس، له مثل أجر من عمل بهذا العلم من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا. وهذه منة عظيمة وفضل كبير؛ فعن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «من دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا» (٢).
وأي عطاء أعظم من هذا؟ ! به تقر الأعين، وتتحرك النفوس متطلعة إليه لما فيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل.
قال سفيان بن عيينة: أتدرون ما مثل العلم؟ مثل دار الكفر ودار الإسلام؛ فإن ترك أهل الإسلام الجهاد جاء أهل الكفر فأخذوا الإسلام، وإن ترك الناس العلم صار الناس جهالًا (٣).
وتلك الخطوات التي يسير بها طالب العلم في طريق تحصيله له فيها أجر عظيم، فقد قال رسول الله ﷺ: «ما من خارج خرج من بيته في طلب العلم، إلا وضعت له الملائكة أجنحتها رضًا بما يصنع حتى يرجع» (٤).
_________
(١) رواه الترمذي.
(٢) رواه مسلم.
(٣) حلية الأولياء ٧/ ٢٨١.
(٤) رواه أحمد وابن ماجه.
1 / 8
قال الإمام الخطابي: ومعنى أن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم أحد ثلاثة وجوه: أولها: أنه بسط الأجنحة، والثاني: أنه كناية عن تواضعها تعظيمًا لطالب العلم، والثالث: أن المراد ترك الطيران والنزول عند مجالس العلم لأجل استماع العلم (١).
وكل منزلة من هذه الوجوه فيها من الشرف والعز ما تطمح إليه النفوس وتتشوق إليه. وكفى بالمرء حبًا للعلم وطلبه قول النبي ﷺ: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» (٢).
قال الإمام الآجري: فلما أراد الله تعالى بهم خيرًا فققهم في الدين، وعلمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سراجًا للعباد ومنارًا للعباد (٣).
وقال رسول الله ﷺ في تفضيل العالم على العابد: «فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي» (٤).
فانظر كيف جعل العلم مقارنًا لدرجة النبوة، وكيف حط رتبة العمل المجرد عن العلم، وإن كان العابد لا يخلو من علم بالعبادة التي يواظب عليها، ولولاه لم تكن عبادة (٥).
والإسلام دين ينبذ الجهل، ويحث على طلب العلم، ويرتب الأجر والمثوبة على ذلك.
_________
(١) معالم السنن.
(٢) رواه البخاري.
(٣) أخلاق العلماء ص ٩٤.
(٤) رواه الترمذي.
(٥) الإحياء ١/ ١٧.
1 / 9
في الحديث عن أنس ﵁: «طلب العلم فريضة» (١).
قال الإمام أحمد: يجب أن يطلب من العلم ما يقوم به دينه، قيل له: مثل أي شيء؟ قال: الذي لا يسعه جهله، صلاته وصيامه، ونحو ذلك.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: اعلم أن طلب العلم فريضة، وأنه شفاء للقلوب المريضة، وأن أهم ما على العبد معرفة دينه، الذي معرفته والعمل به سبب لدخول الجنة، والجهل به وإضاعته سبب لدخول النار، أعاذنا الله منها (٢).
ويكفي هذا الأمر داعيًاَ إلى طلب العلم فإنه طريق للجنة وموصل إلى أبوابها.
وقد دعا رسول الله ﷺ لمن يطلب العلم بالنضرة (وهي بهاء الوجه وجلاله) فعن زيد بن ثابت ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «نضر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» (٣).
وعلى هذا المنهج الرباني سارت الأمة رجالًا ونساء في قافلة العلم والحث عليه ومعرفة قدره. فهذا معاذ بن جبل ﵁ يحث
على طلب العلم ويبين فضله وفضل أهله فيقول: تعلموا العلم؛ فإن
تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه
جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس
_________
(١) رواه ابن ماجه.
(٢) حاشية ثلاثة الأصول للشيخ عبد الرحمن بن قاسم ص ١٠.
(٣) رواه الترمذي.
1 / 10
في الوحدة والصاحب في الخلوة (١).
أيها الحبيب: اجتهد في طلب العلم، واحرص على النهل من معينه والعمل به، ثم عليك بتبليغه وإيصاله إلى الناس امتثالًا لقول الرسول ﷺ: «بلغوا عني ولو آية» (٢)؛ فإننا في زمن اندرست فيه معالم الهدى، وظل أكثر الناس جهلًا، ولم يبق إلا ندرة من العلماء الربانيون؛ أعلام الهدى ومصابيح الدجى.
والعلم الذي تضرب له أكباد الإبل، وتطوى له الأرض، وتثنى لأجله الركب: هو العلم الشرعي الصحيح المستمد من الكتاب والسنة وبفهم السلف الصالح، وهو العلم الذي يوصل إلى تقوى الله ومراقبته وخشيته، ويدل على طاعة الله ﷿ ومعرفة حدوده وأحكامه، ويوصل إلى الجنة ويبعد عن النار.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: أما العلم النافع فهو العلم المزكي للقلوب والأرواح، المثمر لسعادة الدارين، وهو ما جاء به الرسول ﷺ من حديث وتفسير وفقه، وما يعين على ذلك من علوم العربية بحسب حالة الوقت والموضع الذي فيه الإنسان، وتعيين ذلك يختلف باختلاف الأحوال (٣).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وأكمل أنواع طلب العلم أن تكون همة الطالب مصروفة في تلقي العلم الموروث عن النبي ﷺ وفهم مقاصد الرسول في أمره ونهيه وسائر كلامه، واتباع
_________
(١) جامع بيان العلم وفضله ١/ ٥٤.
(٢) رواه البخاري.
(٣) بهجة قلوب الأبرار ص ٤٤.
1 / 11
ذلك وتقديمه على غيره، وليعتصم في كل باب من أبواب العلم بحديث عن الرسول ﷺ من الأحاديث الصحيحة الجوامع.
أيها المسلم:
ما العلم إلا كتاب الله والأثر
وما سوى ذاك لا عين ولا أثر
إلا هوى وخصومات ملفقة
فلا يغرنك من أربابها هدر (١)
أخي:
إن النية الصالحة والهمة العالية نفس تضيء، وهمة تتوقد، واعلم أن من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد، وإن سلع المعالي غالية
الثمن.
فالنفوس الشريفة لا ترضى من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحمدها عاقبة. والنفوس الدنيئة تحوم حول الدناءات، وتقع عليها كما يقع الذباب على الأقذار؛ فالنفوس العلية لا ترضى بالظلم، ولا بالفواحش، ولا بالسرقة، ولا بالخيانة؛ لأنها أكبر من ذلك، والنفوس الحقيرة بالضد من ذلك (٢).
وقد أنزل الإمام الشافعي العلماء منازلهم وأثر تلك العلوم عليهم وعلى طبائعهم وسلوكهم، فقال رحمه الله تعالى: من تعلم القرآن
عظمت قيمته، ومن تعلم الفقه نبل مقداره، ومن كتب الحديث قويت
_________
(١) شذرات الذهب ٧/ ١٠٣.
(٢) الفوائد ص ٢٦٦.
1 / 12
حجته، ومن تعلم الحساب جزل رأيه، ومن تعلم العربية رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
وأول تلك العلوم وأسماها منزلة وأشرفها قدرًا وأنبلها هدفًا كتاب الله ﷿ الذي فيه الآيات المحكمات والسور المنزلات. فهو النور وهو الشفاء وهو الحكمة.
قال ابن مسعود: إذا أردتم العلم فانثروا القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين (١).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية مؤكدًا على ذلك وحاثًا عليه: وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علمًا، وهو إما باطل أو قليل النفع. وهو أيضًا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم، حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم، من الكلام أو الجدال، والخلاف أو الفروع النادرة والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم بها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله (٢).
قال محمد بن الفضل: سمعت جدي يقول: استأذنت أبي في
الخروج إلى قتيبة، فقال: اقرأ القرآن أولًا حتى آذن لك، فاستظهرت
_________
(١) الإحياء ١/ ٣٢٣.
(٢) الفتاوى الكبرى ٢/ ٢٣٥.
1 / 13
القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي الختمة، ففعلت، فلما عيدنا أذن لي فخرجت إلى مرو (١).
وقال أبو عمر بن عبد البر: طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف ﵏، ومن تعدى سبيلهم عامدًا ضل، ومن تعداه مجتهدًا زل.
فأول العلم حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه، ولا أقول: إن حفظه كله فرض، ولكن أقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالمًا ليس من باب الفرض (٢).
وقال الخطيب البغدادي مؤكدًا على ذلك: ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله ﷿، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم (٣). (٤)
وقال الإمام النووي ﵀:
وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز؛ فهو أهم العلوم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن، وإذا حفظ
_________
(١) تذكرة الحفاظ ٢/ ٧٢٢.
(٢) جامع بيان العلم وفضله ص ٥٢٦.
(٣) الجامع لأخلاق الراوي ١/ ١٠٦.
(٤) وقد ذكر والدي - حفظه الله وأجزل مثوبته - أنه عندما أراد في أول عمره مساعدة جدي ﵀ في جمع وترتيب مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية اشترط عليه أن يتم حفظ القرآن أولًا، قال والدي: فأتممت حفظ القرآن كاملًا في ستة أشهر وبدأت في مساعدته في إنجاز هذا المجموع العظيم.
1 / 14
فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالًا يؤدي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنسيان (١).
وينبغي أن يبدأ في دروسه وحفظه ومذاكرته بالأهم فالأهم، فأول ما يبتدئ به القرآن العظيم، وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن (٢).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أما العلم الذي يجب على الإنسان عينًا كعلم ما أمر الله به، وما نهى الله عنه، فهو مقدم على حفظ ما لا يجب من القرآن، فإن طلب العلم الأول واجب وطلب الثاني مستحب، والواجب مقدم على المستحب (٣).
والعلم باب من أعظم أنواع العبادة؛ به يندفع الجهل، وترتفع راية العلم، ويعبد الله بما شرع، ويحكم بما قضى.
قال الإمام الزهري: ما عبد الله بشيء أفضل من العلم (٤).
وقال سفيان الثوري: ما أعلم شيئًا أفضل من طلب الحديث إذا أريد به وجه الله.
وقال أيضًا: لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم.
وأعظم بها من منزلة تداني رتبة النبوة وتسير على نهجها وتقتفي أثرها.
قال عبد الله بن وهب: كنت جالسًا بين يدي الإمام مالك بن أنس أقرأ عليه وأكتب، فأذن المؤذن وأمامي كتب منشورة فبادرت لأجمعها
_________
(١) مقدمة المجموع شرح المهذب ١/ ٣٨.
(٢) المجموع ١/ ٣٨.
(٣) مجموع الفتاوى ١٠/ ٥٤.
(٤) البداية والنهاية ٩/ ٣٥٩.
1 / 15
فقال لي: على رسلك فليس ما تقدم عليه (من التبكير للصلاة) بأفضل مما أنت فيه، إذا صحت فيه النية (١).
وقد أخبرنا رسول الله ﷺ أن طلب العلم خير من نوافل العبادة؛ فعن حذيفة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع» (٢).
وقد عد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ﵀ من نواقض الإسلام: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ﴾ (٣).
وقال أبو سعيد: كان أصحاب النبي ﷺ إذا جلسوا مجلسًا كان حديثهم الفقه إلا أن يقرأ رجل سورة أو يأمروا رجلًا أن يقرأ سورة (٤).
وانظر إلى الفقه في الدين وحاجة هذا الدين إلى العلم والعمل على هدى وبصيرة فقد قال أبو الدرداء ﵁: لأن أتعلم مسألة أحب إلي من قيام ليلة (٥).
وقال الخطيب البغدادي: طلب الحديث في هذا الزمان أفضل من سائر أنواع التطوع لأجل دروس السنن وخمولها، وظهور البدع واستعلاء أهلها (٦).
_________
(١) ترتيب المدارك ص ٢.
(٢) رواه الطبراني.
(٣) سورة السجدة، الآية: ٢٢.
(٤) رواه البيهقي.
(٥) الإحياء ١/ ٢٠.
(٦) شرف أصحاب الحديث ص ٨٦.
1 / 16
هذا في زمانه، فكيف بزماننا الذي رفع الجهل فيه رايته، وأطلت علينا البدع بأعناقها، وأصبح العلماء أندر من الكبريت الأحمر؟ فهذا زمن التشمير لطلب العلم ونثره بين الناس ونشره في الآفاق، لتحيا الأمة، وتهب من غفلتها، وتستعيد مجدها ورفعتها.
قال البغوي: وفضل العلم على العبادة من حيث إن نفع العلم يتعدى إلى كافة الخلق، وفيه إحياء الدين، وهو تلو النبوة (١).
ومن أجل ذلك فضل العالم على العابد لنفعه المتعدي وخيره الفائض للعامة والأمة.
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل إذا فرغ من إصلاح سريرته أن يثني بطلب العلم والمداومة عليه، إذ لا وصول للمرء إلى صفاء شيء من أسباب الدنيا إلا بصفاء العلم فيه، وحكم العاقل أن لا يقصر في سلوك حالة توجب له بسط الملائكة أجنحتها رضًا بصنيعه ذلك.
ولا يجب أن يكون متأملًا في سعيه الدنو من السلاطين، أو نوال الدنيا به، فما أقبح بالعالم التذلل لأهل الدنيا! (٢).
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يومًا يقول: ما صليت اليوم غير الفريضة، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي (٣).
وقال ابن هانئ: قلت للإمام أحمد: أيهما أحب إليك: أجلس
_________
(١) شرح السنة ١/ ٢٧٨.
(٢) روضة العقلاء ص ٣٣.
(٣) السير ١١/ ٢٢٨.
1 / 17
بالليل أنسخ أم أصلي تطوعًا؟ . فقال لي: إن كنت تنسخ فأنت تتعلم به أمر دينك، لهو أحب إليَّ.
وقال الحسن البصري ﵀: باب من العلم يتعلمه الرجل خير له من الدنيا وما فيها.
لان ذلك سبب نجاته وفلاحه كما قال ابن الجوزي: اعلم أن الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل عليه إلا مسارقة، وقد لبس إبليس على كثير من المتعبدين بقلة علمهم، لأن جمهورهم يشتغل بالتعبد ولم يحكم العلم (١).
وأكد على طلب العلم وأنه من الجهاد أبو الدرداء ﵁ حيث قال: من رأى أن الغدو إلى طلب العلم ليس بجهاد فقد نقص في رأيه وعقله.
وقال حاثًا على السعي في منازل الخير: كن عالمًا، أو متعلمًا، أو مستمعًا، ولا تكن الرابع فتهلك (٢).
وقال ابن عباس ﵄: تذاكر العلم بعض ليلة أحب إلي من إحيائها (٣).
وقال مطرف بن عبد الله الشخير: فضل العلم خير من فضل العبادة، وخير دينكم الورع (٤).
_________
(١) تلبيس إبليس ص ١٤٩
(٢) الإحياء ١/ ٢٠.
(٣) وراه البيهقي.
(٤) الآداب الشرعية ٢/ ٤١.
1 / 18
وقال الزهري: ما عبد الله بمثل الفقه.
وقال سفيان الثوري: لا أعلم شيئًا من الأعمال أفضل من العلم - أو الحديث - لمن حسنت نيته (١).
وقال الشافعي: طلب العلم أفضل من صلاة النافلة (٢).
وقال مهنا: قلت لأحمد: حدثنا ما أفضل الأعمال؟ قال: طلب العلم (٣).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن تكرار القرآن والفقه أيهما أفضل وأكثر أجرًا.
فأجاب: الحمد لله، خير الكلام كلام الله، لا يقاس به كلام الخلق؛ فإن فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه. وأما الأفضل في حق الشخص، فهو بحسب حاجته ومنفعته، فإن كان يحفظ القرآن وهو محتاج إلى تعلم غيره، فتعلمه ما يحتاج إليه أفضل من تكرار التلاوة التي لا يحتاج إلى تكرارها، وكذلك إذا كان حفظ من القرآن ما يكفيه وهو محتاج إلى علم آخر، وكذلك إن كان قد حفظ القرآن أو بعضه، وهو لا يفهم معانيه فتعلمه لما يفهمه من معاني القرآن أفضل من تلاوة ما لا يفهم معانيه. وأما من تعبد بتلاوة الفقه فتعبده بتلاوة القرآن أفضل، وتدبره لمعاني القرآن أفضل من تدبره لكلام لا يحتاج إلى تدبره، والله أعلم (٤).
_________
(١) رواه البيهقي.
(٢) مناقب الشافعي ص ٩٧.
(٣) الآدب الشرعية ٢/ ٣٧.
(٤) مجموع الفتاوى ٢٣/ ٥٥.
1 / 19
وهكذا اعتنى الإسلام بالعلم وأهله، بل جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، حتى قال النووي: والحاصل أن المسلمين اتفقوا على أن الاشتغال بالعلم لوجه الله تعالى أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم والصلاة والتسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن (١).
ومن أعظم أسباب الحرمان والشقاء هو الإعراض عن طلب العلم ومجالسة العلماء والاستماع إليهم، فهذا ابن القيم يقول: أعظم الأسباب التي يحرم بها العبد من خيري الدنيا والآخرة، ولذة النعيم في الدارين، ويدخل عليه عدوه منها، هما الغفلة المضادة للعلم والكسل المضاد للعزيمة والإرادة، هذان هما أصل بلاء العبد وحرمانه، أما الغفلة فمضادة للعلم، وقد ذم الله سبحانه أهل الغفلة فقال: ﴿وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾ (٢)، وقال: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا﴾ (٣).
فمن علت همته وخشعت نفسه اتصف بكل جميل، ومن دنت همته وطغت نفسه اتصف بكل خلق رذيل (٤).
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله
وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم
وليس لهم حتى النشور نشور (٥)
_________
(١) المجموع ١/ ٢١.
(٢) سورة الأعراف، الآية: ٢٠٥.
(٣) سورة الكهف، الآية: ٢٨.
(٤) الفوائد ص ٢١١.
(٥) مفتاح دار السعادة ١/ ٤٨.
1 / 20
أخي المسلم:
لاشك أن الأصل في الإنسان الجهل وعدم المعرفة؛ قال الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ (١).
واكتساب العلم لا يمكن أن يحصل بين عشية وضحاها، ولا يمكن أن يصبح الإنسان عالمًا بين ليلة وأخرى، بل لابد من السعي والصبر وتحمل الأسفار، وثني الركب في حلق العلم، ومداومة الحفظ والتكرار، ولأن في ذلك جهدًا ومجاهدة وصبرًا ومصابرة قل من يرد ماءه ويصبر على طول أيامه. ولهذا قل العلماء وكثر الجهال الذين هم موتى بجهلهم وعدم علمهم.
أراد بشر بن الحارث الدخول إلى المقبرة فقال: الموتى داخل السور أكثر منهم خارج السور (٢).
وهذه الكثرة من الأموات نتيجة للجهل وهجر العلم الشرعي، ولذا تسلط عليهم الشيطان بتلبيسه وتدليسه؛ فانتشرت البدع، وهجر العمل، وفتن الناس بعلماء السوء.
قال ابن الجوزي: إن التزود من العلم النافع سبب رئيسي في دفع مكائد الشيطان، وكلما ازداد العبد علمًا نافعًا - ما يورث خشية الله وتقواه - كلما ازداد سلامة من نزغات الشيطان ومكايده، فأنت ترى مثلًا أن أدنى عقبات الشيطان أن شغل العبد بالأعمال المرجوحة والمفضولة عن الأعمال الراجحة والفاضلة. وعلاج ذلك بالفقه في
_________
(١) سورة النحل، الآية: ٧٨.
(٢) صفة الصفوة ٢/ ٣٣٢.
1 / 21
الأعمال، والعلم بمراتب الطاعات عند الله تعالى، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين مفضولها وفاضلها، فإن في الطاعات سيدًا ومسودًا، ورئيسًا ومرءوسًا (١).
وقال أيضًا: ترك العلم غفلة، والإعراض عنه جهالة؛ فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمح العواقب، فمن ذلك أن التكاسل في طلب العلم وإيثار عاجل الراحة يوجب حسرات دائمة لا تفي لذة البطالة بمعشار تلك الحسرة، ولقد كان يجلس إليَّ أخي وهو عامي فقير، فأقول في نفسي: قد تساوينا في هذه اللحظة، فأين تعبي في طلب العلم وأين لذة بطالته؟ (٢).
ولعل شبابنا يستشعرون كلمات ابن الجوزي ويستفيدون من تجربته وتجربة أخيه فإن في ذلك عبرة.
قال عروة بن الزبير ﵀ لأولاده: يا بني! تعلموا العلم وادرسوه، فإنكم إن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبراءهم، واسوءتا! ! ماذا أقبح من شيخ جاهل؟ (٣).
ولعلمهم أهمية العلم وفضل التعلم كانوا يتعاهدون أبناءهم وهم صغار، ويدفعون بهم إلى العلماء للتلقي منهم.
فهذا أبو سعد السمعاني أحضره والده إلى مجلس العلم وهو ابن
أربع سنين، فسمع من مسند زمانه عبد الغفار الشيروي، ثم رحل إلى
_________
(١) مدارج السالكين ١/ ٢٢٥.
(٢) الآداب الشرعية ٢/ ٢٢٩.
(٣) الأمالي للبغدادي.
1 / 22
بلاد كثيرة فسمع من سبعة آلاف شيخ (١).
وقال صالح بن أحمد بن حنبل: رأى رجل مع أبي محبرة، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين! - يعني: ومعك المحبرة تحملها؟ ! - فقال: مع المحبرة، إلى المقبرة.
وقال عبد الله بن محمد البغوي: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: أنا أطلب العلم إلى أن أدخل القبر (٢).
وقال محمد بن إسماعيل الصائغ، كنت في إحدى سفراتي ببغداد، فمر بنا أحمد بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي؟ إلى متى تعدو من هؤلاء الصبيان؟ ! قال: إلى الموت (٣).
والكثير الآن تمر عليه شهور بل وسنوات لم يتعلم فيها حكمًا شرعيًا، ولم يحفظ آية من كتاب الله، ولم يقرأ حديثًا من أحاديث الرسول ﷺ، لكنه ازداد معرفة بأمور الدنيا فلا يفوته منها شيء ولا يغيب عنه أمر.
فسبحان الله العظيم! ! بعضهم مضى من عمره عشر سنوات وما حفظ فيها آية من كتاب الله ولا حديثًا من أحاديث الرسول ﷺ! .
قال أحمد بن محمد بن ياسين: سمعت أحمد بن منيع (ابن عبد الرحمن البغوي) يقول: سمعت جدي يقول: مر أحمد بن حنبل جائيًا
من الكوفة، وبيده خريطة فيها كتب، فأخذت بيده فقلت: مرة
إلى الكوفة! ومرة إلى البصرة! إذا كتب الرجل ثلاثين ألف حديث لم
_________
(١) السير ٢٠/ ٤٥٦.
(٢) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص ٣١.
(٣) مناقب الإمام أحمد ص ٣٢.
1 / 23