وهو يقص طرفا من مذابح الأرمن، فيروي كيف كان المتعصبون من أهل سيواس يذبحون كالوحوش من عثروا عليه من الأرمن بالمناشير.
على أن دفاعه عن الأرمن وتعصبه لهم في محنتهم لا يفيد أنه كان ضعيف الإحساس بعثمانيته، متهاونا في التمسك بها والدفاع عنها، وذلك بدليل أنه كان يكره العرابيين ويسفه ثورتهم، كما كان يخاصم عبد الله النديم لأنه كان «من قدماء من يقولون: مصر للمصريين، ونحن نقول: مصر للعثمانيين» (ص30 من المعلوم والمجهول ج1).
وفي حديثه عن عبد الله النديم في نفس الموضع من نفس الكتاب ما يلقي ضوءا على الكثير من مشاعره نحو العرابيين وثورتهم، حيث يقول: «إن عبد الله النديم انتحل لنفسه السيادة، وجاراه إلى تسميته باسمها جماعة من محبيه، ولكن اتصل بي ممن حضر مجالسه وسمع حديثه وألم ببعض أموره أنه لم يكن في طباعه ما يشبه طباع السادة، وما كان إلا رجلا من الرجال ذكي القلب، شديد العارضة، ذرب اللسان، سريع الخاطر، حاضر البديهة، ظريف المحاضرة، حلو الشمائل، وكان كذلك جريئا على من يخافه، كثير الوقيعة بمن يعاديه، محاسدا أهل الفضل ممن هو دونهم، سهل الغضب صعب الرضاء، مدمن الهجاء دائم السخط، فمن صاحبه على حذر منه فاز بوده، ومن وثق به ضاع وضاعت ثقته معه، قرض الشعر فلم يملك له ناصية، ولا فاز منه بسهم ، ورام الزجل فوفر منه حظه، وحلا في فمه نشيده فكان يرتجله ارتجالا، ويسابق أهله فلا يشقون له غبارا.
هذا عبد الله النديم صاحب «الطائف»، و«التنكيت والتبكيت» من قبل، وصاحب «الأستاذ» من بعد. اختفى بعد ثورة العرابيين، وكان حارثهم بن حلزة أو عمرهم بن كلثوم، رغا فتجمعوا، وعقر فتفرقوا، ثم آوته قرى الريف فبات كأبي زيد السروجي، يحترف الحرف، وينتقل في الأزياء والأشكال، فيوما هو واعظ، ويوما هو ماجن، ويوما هو عالم، ويوما هو خليع، وما زال كذلك يطوف في البلاد حتى تعرفه بعضهم فوشى به إلى الحكومة، فجيء به إلى نظارة الداخلية عليه غبرة ترهقها قترة، فأظهر الذلة والاستكانة ووعد بالتوبة والإنابة، فزين بعض شيعته لمقام الإمارة المصرية أن تعفو عنه بعد ذلك فعفت، فبدأ بعدئذ في نشر «الأستاذ»، وبيان النديم مشهور ومألوف تفهمه العامة، وتبتذله الخاصة، ولو مسح على لفظه بشيء من جزالة اللفظ وسمو المعنى، وأمعن النظر في غلطاته فاجتنبها لصح أن يعد من كبار الكتاب، فقد شهدت له ببعض الذوق السليم، وأعجبني ترسله، وقرأت له في الأستاذ مقالة عنوانها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا»، فعلمت أن البيان سجية في الرجل، وكتابه المسمى «كان ويكون» يجوز أن يقال فيه: إنه ابن قريحة وقادة.
ومن المعلوم عند أهل الدهاء أن حزب العرابي - وإن تمزق شمله بعد نكبة صاحبه - بقي مختبئا في مكامن خوفه اختباء الأفاعي في جحورها، وكذلك الفزع يستولي على أهل الدعوة فيلجم أفواههم ويكبهم على أذقانهم؛ فلما عاد النديم وأعاد لهم نغماته، تطربوا وعرتهم هزة أفلتوا بها من مرابطهم، فقال فصدقوا، ودعا فأجابوا، وما زال في غلوائه وهم في غوايتهم، يدعو إلى الفتنة ويحض على الثورة، والإمارة تحبوه ما يقوم أوده، ويطلق لسانه حتى آل أمره إلى الطرد؛ فترك مصر مأسوفا عليه من أشياعه، مغضوبا عليه من العقلاء.»
والذي لا شك فيه أن دعوة العرابيين «بمصر للمصريين» هي التي أغضبت ولي الدين العثماني. ومن المعلوم أن العرابيين قد ثاروا على محاباة الحكام للجراكسة والأتراك في مناصب الدولة وبخاصة في الجيش، واحتقار هؤلاء الدخلاء للفلاحين المصريين، وإن يكونوا قد اضطروا إلى مصانعة الخلافة الإسلامية وأظهروا خضوعهم لها، مع أن هذه السياسة لم تجدهم فتيلا، وحاربهم توفيق باسم هذه الخلافة الإسلامية، وأذاع على الشعب منشورات يتهم فيها عرابيا وأنصاره بالكفر والخروج على الخلافة. وأكبر الظن أنه لو قلب العرابيون سياستهم، وهاجموا الخلافة المستبدة الفاسدة وتمسكوا - على العكس - بالوحدة العثمانية، لرأينا ولي الدين يناصرهم ويتعصب لهم.
ومع ذلك؛ فإن المناداة بالوحدة أو الجامعة العثمانية لم تكن تكفي لكسب تأييد ولي الدين، أو على الأقل تجنب عداوته، إذا لم تقترن هذه الدعوة بمحاربة الحكومة التركية المستبدة، والخلافة الحميدية الظالمة، وذلك بدليل أن ولي الدين كان يخاصم أيضا مصطفى كامل والحزب الوطني ويتهمهم بالنفاق والتهريج؛ وذلك لأن أنصار هذا الحزب، وإن لم يهاجموا الجامعة العثمانية إلا أنهم ناصروا الخلافة الحميدية والحكومة التركية، واعتمدوا عليها في محاربة الاستعمار الإنجليزي، وذلك بينما كان ولي الدين يرى عدوه الأول في ظلم عبد الحميد وفساده، وإن لم يهاجم الخلافة العثمانية في ذاتها، ولا ناصر فكرة نقل الخلافة من الأتراك إلى العرب، ومن الخليفة العثماني إلى الخليفة الهاشمي، كما كان يدعو البعض من العرب، وكما كان الإنجليز يوحون لأغراضهم الخفية.
ولكي نستكمل آراء ولي الدين السياسية، وهي الآراء التي سيطرت على معظم إنتاجه الأدبي نثرا وشعرا، يجب أن نوضح أنه إذا كان بغض ولي الدين لعبد الحميد وخلافته الفاسدة وحكومته الظالمة لم تدفعه إلى مهاجمة فكرة الخلافة العثمانية في ذاتها، أو فكرة الجامعة العثمانية، إلا أنها لسوء الحظ قد دفعته أحيانا إلى الاستخفاف ببعض أحكام الدين الإسلامي وشعائره، فضلا عن مهاجمة رجاله وعلمائه، حتى لنراه يسخر ممن يدارون إفطارهم في شهر رمضان في مقال له في «الصحائف السود» تحت عنوان «أكذوبة أبريل وأكذوبة رمضان» يختتمها بعبارة يتحدى فيها شعور المسلمين على صفحات جريدة «المقطم» فيقول بعد أن تحدث عن الشدة التي تأخذ بها نظارة الداخلية في تركيا المفطرين والسافرات من السيدات المسلمات: «وفي مصر من الحرية الشخصية ما لا يضطر إلى التواري عن الأبصار، والاختباء تحت الموائد، ولكن في الناس كثيرين يفعلون ذلك. ولولا أني شاركت بعض الأجانب في الكذب معهم في أول يوم من شهر أبريل، وذلك حين كنت ابن عشرين سنة، لجاريت أهل المسابح إلى الكذب، غير أني جالس أمام مكتبي، وعيناي شاخصتان إلى الساعة وقد دوى مدفع الظهر الذي أفطر عليه!»
والواقع أن ولي الدين لم يكن من أنصار الحريات السياسية فحسب، بل كان أيضا من أولئك الذين عرفوا في تاريخ الإنسانية باسم أحرار الفكر، والذين ازدهر مذهبهم في فرنسا مثلا في القرن الثامن عشر، وكان من بينهم فولتير وجماعة دائرة المعارف، والحرية الفكرية عندهم أدت إلى التمرد لا على رجال الدين وحدهم، بل وعلى الكثير من أوامر الدين ونواهيه ذاتها، حتى لنرى عبارة حرية الفكر تقترن عند خصومهم من المحافظين المتدينين بعبارة الزندقة عندما يقولون «حرية الفكر والزندقة»، وإن يكن الجمع بين العبارتين على هذا النحو لا يخلو من إسراف، فإنه إذا كان من بين أحرار الفكر من يبيح لمن يشاء الحق في الزندقة، إلا أنهم لم يكونوا يدعون إليها، كما أن الكثيرين منهم لم يكونوا يصدرون عن خصومة شاملة مطبقة للديانات، بل إن فولتير نفسه إذا كان قد أنكر الرسل والأنبياء، ووساطتهم هم ومن خلفهم من رجال الكهنوت بين الله والبشر، فإنه لم ينكر وجود الله في ذاته، بل وقال: إنه إذا لم يكن الله موجودا لوجب على البشر أن يخترعوه، وإن تكن فكرة الألوهية عنده تختلف بالضرورة عنها في الديانات السماوية.
وعلى أية حال، وسواء أكان ولي الدين يكن قد تأثر بأولئك الفلاسفة والأدباء الفرنسيين الذين كان يجيد لغتهم، أو سار في نفس الاتجاه الذي ساروا فيه بتأثير من العوامل المحلية في الإمبراطورية العثمانية وخلافتها الفاسدة، ورجال دينها المنافقين، فالثابت أنه من المفكرين الأحرار، وأنه أحد حلقات تلك السلسلة الطويلة التي انتهت بظهور مصطفى كمال، وتحطيم الخلافة، وتكوين الدولة المدنية، والقضاء على كل نفوذ لرجال الدين، والاتجاه بتركيا اتجاها كليا نحو الحضارة المادية الغربية.
Halaman tidak diketahui