وما أزعم أني أحببت بغداد والعراق حب المدلهين، وإنما أذكر أن قلبي خفق خفقة كاد يطفر لها الدمع حين وقع بصري على دجلة أول مرة، وأذكر أني شربت ماء الفرات صرفا، شربته ممزوجا بالطين، فبدا لي أشهى وأعذب من الرضاب المعسول، وأذكر أني ألقيت محاضرة بالإذاعة اللاسلكية فثارت من حولها العواصف وتنكر لها فريق من الأدباء والعلماء فطربت وقلت: الحمد لله الذي أحياني حتى جرى اسمي بالملام على ألسنة أهل العراق. •••
ومن العدل أن أعترف بأن أهل بغداد جروا على فطرتهم النبيلة فجزوني حبا بحب وإخلاصا بإخلاص، فلم يصح ما توقعت من أن انتقالي من القاهرة إلى بغداد سيكون انتقالا من نضال إلى نضال.
فهل تسمحون بالإشارة إلى بعض ما جزتني بغداد؟
لقد راعني أن أجد في دار المعلمين العالية شبانا نجباء يستمعون دروسي، وكأنهم صورة من صور العطف والذكاء، وأعظم نعمة في الدنيا أن يقف الرجل موقف المعلم لشبان مهذبين أذكياء، وأنا واثق أن لن يعاديني أحد من هؤلاء التلاميذ، ومطمئن إلى أني لا أعيش بينهم عيش الغريب بعد أن طالت شكواي من الغربة في القاهرة وسنتريس.
وراعني أيها السادة أن يكون لي زميل كالدكتور عقراوي، زميل يحضر محاضراتي مع أهله، ثم يختصمان في سبيلي وهما على المائدة، فتنتصر هي عند الغداء وينتصر هو عند العشاء.
وراعني أن أجد في دياركم رجالا من أهل العلم، أمثال الأستاذ طه الراوي، والدكتور فاضل الجمالي، رجالا يعرفون الأخوة الأدبية فيزيلون عني كل وحشة، ويذهبون عن قلبي متاعب الاغتراب.
وقد تفضلت الطبيعة العراقية فأتحفتني بأنفس ما تملكون وهو ليل بغداد، ولن أترك لكم هذا الليل، وأصارحكم بأني سأنهبه ثم أطويه في جيبي وأنقله إلى ضفاف النيل.
ولكن أي ليل؟ إنه في هذه الأيام لا يعرف إنسانا سواي، فإن شعر أحدكم بأن لياليه مضيعة فليحقد علي كيف شاء فأنا الذي أنتهب من عينيه سحر الليل، ليل بغداد.
ولهذا الليل أيها السادة أحاديث، فقد عرفت به كيف استطاع علماء العراق أن يملأوا الدنيا علما وأدبا، وكيف كان الرجل يستطيع أن يؤلف مائة كتاب ويعلم ألوف التلاميذ، ويساجل النجوم بأشعار باقية على الزمان.
ليل بغداد هو الذي سيخلق زكي مبارك من جديد، ليل بغداد الطويل الذي يصل في بعض الأحايين إلى سبع وسبعين ساعة وسبع دقائق، ليل بغداد الذي حمل المكتبة العامة على رفع شكواها إلى وزارة المعارف لتنقذها من الجاحظ الجديد الذي اسمه زكي مبارك.
Halaman tidak diketahui