أجل يا إخوان، لقد انتهى ملك الشر والظلم والكذب والرياء والاعتداء في العالم الفاسد، إن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تثمر ثمرا صالحا تقطع وتلقى في النار.
انظروا هذه المملكة الواسعة التي أمامنا، هذه هي العالم الحقيقي؛ ولذلك قلت لكم إنني ههنا منذ تكوين العالم، فأنا الآن هنا أكون العالم الحقيقي الذي يسود فيه الخير والصلاح، وقد مرت علي سنوات عديدة أهذبه وأؤدبه، فتم لي ذلك بمعونة الله تعالى، وإذا فتشتم هذه الأقطار كلها لا تجدون فيها بين سكانها أثرا لفظائع العالم وشروره الهائلة.
فقال سليم همسا: نعم، لا نجد فيه شيئا حتى ولا سكان. فأجاب كليم همسا أيضا: يظهر أن صاحبنا مجنون.
ثم التفت كليم إلى الشيخ وقال: إنني أعجب يا عم كيف استطعت تهذيب هذه المملكة مع أن الملوك عجزوا حتى الآن عن تهذيب ممالكهم؟
فصاح الشيخ حينئذ بغضب: ويل للملوك ولترتجف عروشهم من غضب الله، ولو كان أصغر الملوك يصنع بمملكته ما صنعته بمملكتي لما بقي فيها شر، فإنني سألت نفسي حين تسلمت هذه المملكة: ما هو أصل الشر؟ فرأيت أن (أصله الوحش الذي في الإنسان)، فإنكم تعلمون أن في الإنسان شيئين: الوحش والإنسان، فالوحش يطلب كل شيء لنفسه ولو مات غيره، والإنسان يشفق على نفسه وعلى غيره أيضا؛ فقلت إن رأس واجباتي كملك لهذه الديار قتل الوحوش لاستئصال الشر، فاقتنيت هذه البندقية، وقد اشتريتها بجلود عشرين ذئبا وأسدين وخمسين ثعلبا وعشر ضباع، وكنت أجلس على هذه الرابية، وكلما رأيت أحدا يعتدي على غيره - أي كلما رأيت الوحش يطمع في ما هو لغيره - قتلته برصاصة واحدة، ففي بدء الأمر قتلت مئات ثم عشرات، أما الآن فقد تناقص الشر، وقلما أقتل في الشهر واحدا.
فارتعدت حينئذ فرائص سليم وكليم، وتحققا جنون ذلك الشيخ التعيس، وصار همهما إظهار التقوى والصلاح والقداسة؛ لئلا يلحقهما بمن فتك بهم جنونه من قبل، أما الشيخ فكان في هذا الحين يسرح نظره في مملكته الواسعة، وإذا به قد صرخ بغتة بصوت كصوت الوحش: الوحش الوحش الوحش، وقام يعدو وبندقيته في يده، فالتفت كليم وسليم وهما مدهوشان إلى الجهة التي سار فيها، فنظرا على أكمة قريبة ذئبين يتقاتلان، فلما خرج الشيخ من واديه أطلق على الذئبين طلقين فصرعهما بالحال، ثم أسرع إليهما فأجهز عليهما وجرهما إلى كوخه وطرحهما أمام سليم وكليم وهو يضحك لفوزه ويقول: كلاهما معتد فأرحنا المملكة منهما.
فتنفس حينئذ سليم وكليم الصعداء؛ لأنهما علما أنه إنما كان يقصد بكلامه الحيوانات لا البشر، وقال كليم حينئذ للشيخ الذي كان يحشو بندقيته: لقد أدهشتنا يا عم بقوتك ونشاطك وصلاحك، فلماذا لا تذهب معنا إلى المدن لمحاربة الشر هناك وتكوين العالم الحقيقي فيها؟ إن مدننا الفظيعة القبيحة محتاجة إلى الإصلاح، فلماذا تحرمها من مساعدتك؟
فعبس الشيخ حينئذ وقال وشرر الغضب تتطاير من عينيه: المدن! ويل للمدن! وويل لي إذا دخلت المدن! فإنني لا أقدر على جمع الوحوش التي فيها؛ إذ ليس لي غير يدين، ولا أقدر أن أمسك بهما أكثر من بندقية واحدة، وبندقية واحدة لا تكفي لإخضاع الوحوش الذين فيها، آه من المدن ومن العذاب الذي ذقته في المدن! لا تصدقوا أنني ولدت هنا، بل إنني ولدت في المدن، وعشت في المدن. ولكن الوحوش فيها أكلتني وطحنتني ففررت منها، كلا يا إخوان، إن صحبة الذئاب والضباع والنمورة في البر أفضل من صحبة الإنسان في المدن، ولكن لا بأس ستأتي نوبة المدن، وحينئذ أدخل إليها - بإذن الله - دخول المنتقم لله من وحوشها الضارية.
فقال سليم: ومتى يكون ذلك يا عماه؟ فقال الشيخ: أما سمعت ما قلته من أن الأمر قد انتهى.
فمنذ هذا الحين وقف سليم وكليم على حقيقة ذلك التعيس، فعلما أنه رجل أضاع صوابه لظلم أصابه، فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحق الظلم والشر ثم يملكه المدن لاستئصالهما منها أيضا.
Halaman tidak diketahui