وكان سليم يتكلم ومخلوف يفتكر، وقد أخذ العرق يقطر من جبينه؛ فدل ذلك على أن نفسه كانت حينئذ في صراع شديد مع نفسها، ولما أتى سليم على آخر كلامه انهملت دموع مخلوف على خديه؛ فوضع رأسه بين يديه وصار يبكي بكاء شديدا؛ فاغرورقت حينئذ بالدمع عينا سليم وكليم، وازدادت دهشتهما من أن يوجد اليوم في الأرض إخلاص كإخلاص هذا العاشق المجنون التعيس.
ولما استغرق مخلوف في البكاء رام كليم تسليته من وجه آخر، فقال له: أنت مصيب في بكائك يا مسيو مخلوف، فبارك الله في عواطفك الرقيقة وقلبك الحساس؛ إنك - ولا شك - تبكي على الزوج المسكين الذي يتزوج ويرزق أولادا من زوجته ومع ذلك يرى عين امرأته ناظرة إلى سواه، إلى شاب أغض منه شبابا؛ فتجعل حياته جحيما دائما، إنك تبكي على الزوج الذي يتزوج اليوم ثم تموت زوجته الفتاة الرطبة الجميلة بعد سنتين تاركة على ذراعيه طفلين يصيحان دائما «يا أماه»، بينما قلبه يصيح معهما «يا حبيبتي»، إنك تبكي الزوج الذي يموت بعد زواجه بسنتين تاركا أرملة فتاة وصغيرين لا معين لهما غير الله، إنك تبكي الزوج الذي يرى عائلته تكبر شيئا فشيئا - كل سنة ولد - ويرى باب رزقه ضيقا؛ فهذه الأحوال الاجتماعية جديرة يا مسيو مخلوف بدموعك، وإذا كنت لم تتزوج بعد فاشكر الله لأنك لم تقع في أحدها.
ولكن يظهر أن المسكين مخلوف لم يفهم معنى هذا الكلام، أو كأنه لم يسمعه لاشتغاله عنه بما كان يجول حينئذ في ضميره، فلما سكت كليم تحفز للنهوض، فأمسك به سليم وكليم ليشاركهما في الطعام، فاعتذر ونهض، فحاولا إقناعه بالسفر معهما إلى الحدث ومنها إلى الأرز؛ فلما سمع كلمة الأرز قال لهما بهيئة جدية يضحك منها من يعرف جنونه إنه مسافر بعد مدة للأرز للسياحة هناك، وإنه سيقابلهما فيه. ثم تخلص منهما وودعهما بإحناء رأسه، وسار في سبيله.
كأنما هو في حل ومرتحل
موكل بفضاء الله يذرعه
ولما غاب عن بصرهما في منعطف المكان التفت سليم إلى رفيقه وقال: حقا إن حالته حالة مؤثرة. وبعد أن تناولا الطعام واستراحا قليلا ركبا وسارا في طريقهما مع جرجس، وكان كل واحد منهم يفكر في مخلوف، وبعد برهة دار بينهما الحديث على الطريق؛ لأن الطريق خير محرك للحديث.
فقال سليم: هذه أول مرة أرى فيها محبا جن من حبه؛ فما أحسن هذه الأخلاق الدمثة اللطيفة مع الجنون! فقال كليم: أما أنا فقد شاهدت مجانين عشاقا قبل اليوم، وعندي قصة أشد تأثيرا من قصتنا هذه، فإنني منذ سنتين زرت في طريقي مع بعض الأصحاب دير قزحيا حيث يعزل بعض المجانين؛ فلما أشرفنا على مكانهم وجدنا أحدهم منفردا عن الباقين وهو جالس حزينا ملوي الرأس، فقلنا: (إن كان فهذا. فوقفنا به فسلمنا عليه فرد السلام. فقلنا له: ما تجد؟ فأنشأ يقول:
الله يعلم أنني كمد
لا أستطيع أبث ما أجد
نفسان لي: نفس تضمنها
Halaman tidak diketahui