فنزل كليم وسليم للراحة وتناول الطعام، وبعد حين طلبا بيضا مقليا وجبنا وعنبا وجلسا يأكلان، وإذا برجل قد دنا من أحد الفرسين، ومد يده إلى الخرج الذي كان عليه، وأخرج منه جريدة إنكليزية، فقال كليم لرفيقه: ما شاء الله! إن صاحبنا يفعل بخرجنا ما يشاء (بدون تكليف). ثم نهض ودنا من الرجل وسأله: ماذا تريد؟ فعبس الرجل وقال: لا أريد شيئا، ولكني أحب أن أقرأ.
ثم إنه أدار ظهره لكليم وجلس على طرف الدكة، ونشر الجريدة الإنكليزية وصار يقرأ فيها.
فاستغرب سليم وكليم أمر هذا الرجل، وكانت هيئته وثيابه مما يزيد الاستغراب؛ فإنه كان في نحو الأربعين من عمره بلحية كثة وخطها الشيب، وشعر وافر في رأسه يتدلى من تحت طربوشه القذر، وكان طويل القامة عريض العضل يلبس ثيابا قديمة قذرة ويمشي بحذاء ممزق، إلا أن سحنته كانت تدل على الهدوء واللطف والسكينة.
وبعد أن قرأ هذا الرجل بضعة أسطر في الجريدة رفع رأسه، وضحك ضحكا شديدا، ثم قال: كلهن سواء، ثم التفت إلى كليم وقال: أليس حقا ما أقول؟ فقال كليم: عن أي شيء تتكلم؟ فضحك الرجل ضحكا أشد من ضحكته الأولى وقال وهو يهز رأسه طربا:
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا
وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
ثم وقع على الأرض وأغمي عليه.
فذعر حينئذ كليم وسليم، أما صاحب المحل فإنه ركض مسرعا وهو يضحك، فنضح وجه ذلك الرجل المسكين وصدره بالماء، ثم التفت إلى سليم وكليم وقال: لا تخافا؛ فإن هذا الرجل مجنون، بل هو نصف مجنون، وهو يصاب بهذه النوبة مرة كل يوم أو كل يومين. فاشتد حزن كليم وسليم على حالة الرجل حينئذ، وبادرا إليه يسعفانه بالمعالجة، وبينما كانا يفركان يديه بأيديهما سألا صاحب المحل: وما قصته؟ وأين بلاده؟ فإنه غريب عن لبنان على ما يظهر.
فأجاب صاحب المحل: الذي سمعته أنه غريب عن لبنان، ويقال إن سبب جنونه حبه فتاة رام الاقتران بها فرفضت وهجرته، وهو من ذلك الحين يطوف البلاد على قدميه يأكل إذا وجد طعاما ويصوم إذا لم يجد، وأحيانا ينام تحت سقف منزل، وأحيانا تحت قبة السماء، فهو شبيه برجل تائه على وجهه في البلاد، وكل الأهالي يعرفونه.
فلما سمع كليم وسليم هذه القصة تأثرا تأثرا شديدا، ومما زاد تأثرهما امتزاج تعاسة الرجل بشيء غزلي جميل؛ لأنه جن بسبب الحب كما سمعا.
Halaman tidak diketahui