ضحك الأجيران ضحكة خفيفة وقهقه رالف. واشتعل وجه كلود المليء بالنمش غضبا. وتيبست قطعة الفطير، وأصبحت ثقيلة في فمه واستصعب ابتلاعها. كان يعلم والده كرهه لقيادة البغال إلى المدينة، ويعلم مدى كرهه للذهاب إلى أي مكان بصحبة دان وجيري. بالنسبة إلى الجلود، فقد كانت لأربعة عجول مخصية هلكت بسبب العاصفة الثلجية في الشتاء الماضي نتيجة لإهمال مستهتر من نفس هذين الأجيرين، وما كان الثمن الذي تجلبه يبلغ نصف مقابل الوقت الذي قضاه والده في سلخها ودباغتها. كانت تلك الجلود توجد في سقيفة علوية طوال الصيف، وذهبت العربة إلى المدينة عشرات المرات. ولكن لما أراد أن يذهب إلى فرانكفورت اليوم مهندما ومن دون مسئوليات، بات لزاما عليه أن يأخذ هذه الجلود ذات الرائحة الكريهة ورجلين بلسان بذيء، ويقود زوجا من البغال لا يكفان عن النهيق والوقوف فجأة والتصرف بحماقة وسط حشود الناس. على الأرجح، نظر والده من النافذة ورآه يغسل السيارة؛ ومن ثم قرر أن يوكل إليه هذه المهمة لما كان يرتدي ملابسه. هكذا كان مفهوم المزحة بالنسبة إلى والده.
نظرت السيدة ويلر إلى كلود متعاطفة، وشعرت أن خيبة الأمل تملكت منه. ربما ساورها الشك هي أيضا بأن هذه مزحة. إنها تعلم أن الفكاهة يمكن أن تأخذ أي شكل.
بينما كان كلود في طريقه إلى الحظيرة بعد الإفطار، ذهبت تهرول إلى الممر ونادته بصوت خافت؛ دائما ما تجعلها الهرولة تلهث. لما وصلت إليه، رفعت بصرها إليه بحرص، واضعة يدها على جبهتها بلطف كي تظلل على عينيها. وقالت بنبرة حزينة: «إذا أردت، فسأجهز معطفك الكتاني يا كلود، إذ يمكنني كيه ريثما تنتهي من ربط العربة.»
وقف كلود يركل كومة من الريش المنقط الذي كان يوما ما دجاجة صغيرة. رأت والدته أن كتفيه كانتا غير محنيتين، وكان يوحي شكله بأنه مفعم بالحيوية ولديه تحكم راسخ بالنفس. «لا عليك يا أمي.» تحدث بسرعة متمتما بالكلمات. «الأفضل أن أرتدي ملابسي القديمة ما دمت سآخذ الجلود. إنها مليئة بالدهون، وستصبح رائحتها أسوأ من رائحة السماد عندما تتعرض للشمس.» «أظن أن الرجلين سيهتمان بأمر الجلود. ألا تشعر بأنه من الأفضل أن ترتدي ملابس تليق بالمدينة؟» كانت لا تزال تنظر لأعلى نحوه. «لا تشغلي بالك. جهزي لي قميصا ملونا نظيفا إذا أردت. سيكون هذا مناسبا.»
استدار متجها إلى الحظيرة، وعادت والدته أدراجها عبر الممر إلى المنزل بخطى بطيئة. كانت جسورة ومحنية الظهر جدا، تلك الأم العزيزة! قال في باله إنها ما دامت تتحمل هؤلاء الرجال وتطهو وتغسل لهم، فلا ضير من أن يأخذهم إلى المدينة!
بعدما غادرت العربة بنصف الساعة، ارتدى نات ويلر معطفا من صوف الألبكة، وانطلق في عربته ذات الجرس التي كان يستخدمها للتجول في أنحاء البلدة على الرغم من أن لديه سيارتين. لم يقل شيئا لزوجته؛ فمن شأنها أن تخمن هل سيعود إلى المنزل على العشاء أم لا. كان أمامها هي وماهيلي وقت كاف للتنظيف والكنس طوال اليوم؛ إذ لا يوجد رجال حولهما يعطلون عملهما.
السنة كانت تتخللها بضعة أيام لا يذهب فيها ويلر بعربته إلى أي مكان، لا إلى مزادات البيع أو المؤتمرات السياسية أو اجتماع مديري شركة فارمرز تليفون، وحينها كان يتفقد الجيران ويرى مدى تقدمهم في عملهم، إن لم يكن لديه شيء آخر يقوم به. كان يفضل عربته على السيارة لأنها خفيفة، ويسهل التنقل بها على الطرق غير المستوية أو المزدحمة، ومتهالكة جدا لدرجة أنه لم يفكر قط في أن يقترح على زوجته أن ترافقه فيها. بالإضافة إلى ذلك، كان يستطيع أن يرى الأنحاء أفضل عندما لا يكون على ذهنه الانشغال بالطريق. أتى إلى هذا الجزء من نبراسكا عندما كان الهنود الحمر والجواميس لا يزالون يتجولون بحرية في المكان، وكان يتذكر عام غزو الجراد والإعصار الكبير، ورأى المزارع وهي تظهر واحدة تلو الأخرى بعد أن كان المكان مقفرا، وكانت الريح وحدها تسكنه. شجع مستوطنين جددا على أخذ مساكن لهم في المكان، وحثهم على الود فيما بينهم، وأقرض الشباب الأموال من أجل الزواج، ورأى العائلات وهي تكبر، حتى شعر بأن هذا كله مشروعه الخاص. كانت تثير اهتمامه التغييرات التي كان يراها، ولم تهمه التغييرات التي أحدثتها السنون فحسب، بل أيضا تلك التي كانت تحدثها الفصول.
كان الناس يتعرفون على نات ويلر وعربته وهي على بعد ميل. كان يجلس مرتاحا بجسده الضخم، ويتثاقل على أحد طرفي المقعد المائل، ويده التي تقود العربة موضوعة على ركبته. حتى جيرانه الألمان - آل يودر - الذين كانوا يكرهون التوقف عن العمل لمدة ربع ساعة لأي سبب من الأسباب، كانوا يسعدون برؤيته قادما. كان يفتقده التجار في البلدات الصغيرة المنتشرة في المقاطعة إذا لم يزرهم مرة على الأقل في الأسبوع أو نحو ذلك. لقد كان ناشطا في مجال السياسية، ورغم أنه لم يسبق له الترشح لمنصب ما، فإنه كان غالبا ما يناصر أي صديق له يفعل ذلك ويقود له حملته.
يتجسد المثل الفرنسي «فرحة الشارع حزن المنزل» في السيد ويلر، وإن لم يكن بالطريقة الفرنسية على الإطلاق. كانت شئونه الخاصة ذات أهمية ثانوية بالنسبة إليه. في بداية حياته، استوطن واشترى وأجر أراضي كثيرة بالقدر الكافي، وكان هذا سببا في ثرائه. والآن، كان عليه ألا يؤجر تلك الأراضي لغير المزارعين الجيدين الذين يحبون العمل، ولكنه لم يفعل ذلك، ولم يخف ذلك. ولما كان يمكث في المنزل، فعادة ما كان يمكث في غرفة المعيشة بالطابق العلوي ويقرأ الجرائد. كان لديه اشتراك في 12 جريدة أو نحو ذلك - تضمنت القائمة جريدة أسبوعية مخصصة للفضائح - وكان على اطلاع واسع بما يجري في العالم. لقد كان يتمتع بصحة جيدة، ويأخذ المرض الذي يصيبه أو يصيب غيره على سبيل المزاح. ومن المؤكد أنه لم يعان البتة من أي مرض صعب أكثر من ألم الأسنان أو الدمامل أو نوبة صفراوية عرضية.
كان ويلر يجود بما لديه للكنائس والجمعيات الخيرية، ولا يبرح يقرض الأموال أو الآلات لجار يفتقر إلى أي شيء. كان يحب أن يضايق الأشخاص الخجولين ويصدمهم، ولا تخلو جعبته من القصص المضحكة. كان يندهش الجميع من حسن العلاقة بينه وبين ابنه الأكبر بايليس ويلر. لم يكن بايليس خجولا بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه كان غير متفتح؛ من نوع الشباب الحذر الذي لا يتوقع أن يحبه نات ويلر.
Halaman tidak diketahui