Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genre-genre
وعندما ترجمت «حلم ليلة صيف» بعد التخرج، استعنت ببعض المراجع عن التقاليد الشعبية الخاصة بالجن والعفاريت في إنجلترا أيام شيكسبير، وكان من ضمنها كتيب كتبه شوقي السكري بالإنجليزية عن هذا الموضوع، أو هكذا كان يقول العنوان، ولكنه كان منقولا بالحرف من كتاب يوجد في مكتبتنا هو «شيكسبير والتقاليد الشعبية» من تأليف أستاذ اسمه بيثيل، وكان حافلا بالأمثلة والحكايات، وكان حقا ممتعا. وكان منهج شوقي في النقل هو أن يبدأ بفقرة من فصل متأخر، ثم يردفها بفقرات من فصول أخرى سابقة، وينهي الكتاب بخلاصة الموضوع التي عادة ما يضعها المؤلف في المقدمة، مما يجعل من الصعب على القارئ متابعة الأفكار. وكان الكتيبان من مطبوعات مكتبة الأنجلو المصرية (عند عم صبحي جريس متعه الله بالصحة ومد في عمره).
وكنت قد ذكرت ذلك عرضا لسمير سرحان، فذكره عرضا لرشاد رشدي، وعندما حان موعد ترقية شوقي السكري إلى أستاذ مساعد، طلبني رشدي (عام 1962م) وطلب مني نسخا من هذا الكتيب، فقلت له إنها موجودة في المكتبة وعند صبحي جريس، فطلبها، ومن ثم كتب تقريرا يقول فيه إن «الباحث» لا يستحق الترقية بسبب عدم الأمانة (وأنا أعرف أن الكلمة الإنجليزية التي أوحت له بهذا التعبير وهي
dishonesty
تعني السرقة في الواقع). وأرفق بتقريره صورا من «أبحاث» شوقي والأصول المستمدة منها. وكان رشاد رشدي بطبيعة الحال لا يحب شوقي السكري، وقد استغل شوقي هذا «النفور» في تأليب أعضاء مجلس الكلية عليه، بحيث أظهر القضية في صورة المسألة الشخصية. ولذلك كان أعضاء المجلس منحازين إلى شوقي، ولا يبدون أي تعاطف مع ما ورد في التقرير، وكان أعضاء اللجنة العلمية وعلى رأسهم لويس مرقص، ومهدي علام، وهما من كبار أساتذة عين شمس، يريدون ألا يقتصر الأمر على عدم الترقية، بل أن يصدر مجلس الكلية قرارا بمعاقبة الأستاذ «غير الأمين» حتى يرتدع من تسول له نفسه سرقة كتب الغير، ولكن رشاد رشدي أقنع أعضاء اللجنة بأن يقتصر التقرير على «الحقائق»، وأن يترك للمجلس اتخاذ ما يراه من إجراءات.
كان أعضاء اللجنة الموقعون على التقرير من كبار أساتذة الإنجليزية في مصر، بل كتب لبعضهم فيما بعد أن يحتل مناصب مرموقة خارج مصر، مثل محمود المنزلاوي ومحمد مصطفى بدوي (من جامعة الإسكندرية)، ولكن مجلس الكلية لم ينظر في التقرير إلا لكي يتساءل عن سر الخصومة بين رشدي وشوقي! وكانت الجلسة مؤلمة لرشدي ومضحكة إلى حد العبث أو اللامعقول - إذ تساءل أحد أعضاء المجلس: ألست ترى أن الدكتور شوقي قد بذل مجهودا؟ وتساءل آخر: لماذا لا تفتح الباب أمامه بدلا من إغلاق الدنيا في وجهه؟ وهكذا. وكان القرار هو ترقية شوقي السكري إلى درجة أستاذ مساعد رغم أنف الجميع. وكان أن كتب رشدي مشهد مجلس المهندسين ليحاكي ما حدث في مجلس الكلية، وكان بكل المقاييس مشهدا رائعا - حتى حين قدم على المسرح دون تدخل كبير من سعد أردش!
وكان رد الفعل لدى شوقي السكري هو إثبات نشاطه الأدبي عن طريق الندوات العامة، فابتدع «ندوة ناجي» التي برزت فكرتها باعتبارها احتفالا بمكانة الشاعر إبراهيم ناجي، ثم أصبحت ندوة أسبوعية ناجحة، ولا شك أن الجو الأدبي حينذاك كان يقبل بل يطلب مثل هذه الندوات، وكنت أواظب على حضورها، وفيها ومنها تعلمت الكثير، بل شاركت في بعضها، وكان سمير سرحان دائما معي، وكان العمل والتفكير والإنتاج يلهينا عن خيبة الأمل في السفر!
وذات يوم في يونيو جاءتني طالبة تنجح بتفوق (جيد جدا) في القسم، وانتهت من السنة الثانية، وشاركت في مهرجان شيكسبير الذي قدمه نادي المسرح، وسألتني عن بعض معاني آية أو آيتين في القرآن. كان اسمها نهاد صليحة، وكانت من طالباتي المجتهدات، لماحة، ذات اهتمامات متعددة، خضراء العينين، فجلست أشرح لها في غرفة معاون الكلية حتى تأخر الوقت، فوعدتها باستكمال الشرح في اليوم التالي. وفي اليوم التالي طال بنا الحديث فخرجنا إلى كوبري الجامعة ثم أوصلتها إلى ميدان التحرير حيث عادت إلى منزلها، وبعد ذلك قابلتها في المسرح وقد اشترت تذكرة من مصروفها ودخلت تشاهد العرض، فقلت لها إن هذا مسرحنا، ولدينا دعوات لأبناء قسم اللغة الإنجليزية والموهوبين من عشاق المسرح، ولكنها قالت إنها تفضل دفع الثمن مقدما حتى لا تؤثر الدعوة في انطباعها عن المسرحية!
وطلبت منها الحضور إلى المجلة فجاءت، وأصبحت آنس إليها وأسعد بها، ووجدتني أطلبها وأبحث عنها، وصرت أعرض عليها كل ما أكتب، ومن ثم اقترحت عليها أن تنضم إلى الشلة؛ لأنني بصراحة لا أستطيع الاستغناء عن سمير سرحان، حتى ولو استطعت الاستغناء عن فاروق عبد الوهاب! ولم تمانع؛ فهم جميعا مدرسون في القسم، ورئيس المجلة هو رئيس القسم، والمسرح هو عشقها الجديد! وكنا نلتقي بعد الظهر في مقهى لاباس، فهو مكيف الهواء، وكثيرا ما نذهب إلى السينما هربا من الحر، وأطلعتني ذات يوم على قصة قصيرة كتبتها فأعجبني تمكنها من الأسلوب العربي الذي كان كثيرا ما يعصيني، وكان الصيف ذلك العام أرق نسيما وأجمل شذى بفضل هذه الفتاة الرائعة (زوجتي الحالية).
كانت مشكلة الأسلوب السردي مشكلة حقيقية. الشعر تحكمه أصول النظم وتحده القافية فتيسر على الكاتب بعض الصعاب. أما النثر فهو منطلق دون ضابط ولا رابط. وذات يوم كنت مع صلاح عبد الصبور في مقهى سميراميس، حيث سألني عن رأيي في قصيدة «الخروج»، وكان آنذاك في الثالثة والثلاثين ولكنه كان يتمتع بقلب طفل كبير، ومشاعر فياضة لم أشهد مثلها في حياتي عند أحد، وعندما قمت بتحليل قصيدة «الخروج»، ملقيا الضوء على براعة استخدام الأسطورة الدينية ، و«المفاتيح» التي وضعها للربط بين الرحلة في المكان والرحلة في الزمان، وإذابة قصة الخروج من مصر في قصة الهجرة من مكة إلى المدينة، وجدت الدموع تترقرق في عينيه، وأحسست بكيانه يهتز، وقال لي بصوت متهدج: «هذا هو نجاحي الحقيقي في الشعر!» وأحسست ساعتها أنني نجحت أنا أيضا في النقد والشعر جميعا!
وسرعان ما توثقت صداقتي مع صلاح فقص علي في المساء التالي قصة أبو التسهيل الدلبشاني التي حاولت كتابتها ففشلت مرة بعد مرة، مما أكد لي أن موهبتي لا علاقة لها بالقصة القصيرة! كان أبو التسهيل يعمل مدرسا للغة العربية في المدرسة التي عمل بها صلاح فور تخرجه. وكان في التاسعة والخمسين أو على مشارفها حين جاء إلى المدرسة من أبلغها بأن كبير مفتشي اللغة العربية سوف يصل في غضون أيام، وكان رجلا ذاع عنه حب العدل والإنصاف، والالتزام التام بالموضوعية؛ فهو لا يجامل أحدا ولا يحابي أحدا، كان يقال إن هذه الصفات هي التي أوصلته إلى هذا المنصب وقربته إلى قلوب كبار رجال الوزارة. وقال لي صلاح إنه لم يكن يرى أنه سيقضي حياته كلها مدرسا وكان قد بدأ ينشر الشعر والمقالات، آملا أن يحصل على عمل في الصحافة؛ ولذلك فقد كان ينظر إلى الزيارة نظرة متفرج إلى مسرحية من مسرحيات الحياة، مثلما كنت أنظر أنا وسمير إلى بعض الأحداث من حولنا.
Halaman tidak diketahui