Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genre-genre
وذات يوم وأنا أستعد لحضور عرض المسرحية وجدت سيارة الإذاعة تقف أمام المسرح ويخرج منها جمال السنهوري، ومعه بعض الأشخاص، وكان يتحدث في ميكروفون يمسكه في يده موصل بسلك طويل إلى السيارة، ثم توقف وأغلق الميكروفون، وحياني وقال لي: «عناني! مبروك! حنذيع البر الغربي في صوت العرب!» ولم أصدق. لقد نجت المسرحية بصعوبة من مقص الرقيب، فكيف يسمح أمين حماد بإذاعتها؟ وفهمت فيما بعد أنه كان يحمي نفسه في الواقع، فها هو يبلغ المسئولين ما تقوله المسرحية علنا، ولا يمكن لمن يسمع فصلا واحدا (وهو الذي يذيعه في برنامج تاكسي السهرة في صوت العرب) أن يتبين أي اتهام مما وجه إليها! وجلس جمال السنهوري إلى جواري في أحد الألواج الأمامية، وبدأ يذيع الوصف التفصيلي لما يحدث على المسرح حتى بدأ الحوار، ومن ثم ترك لي الميكروفون واختفى!
وبدأت أنا أذيع ما يحدث، منتقيا ألفاظي بعناية، حريصا على تأكيد ما انتهت إليه الرقابة، وبانتهاء الفصل الأول عاد جمال السنهوري وأخذ الميكروفون وخرج! وخرجت من العرض في شبه ذهول! كان يجب أن أسجل هذا الحديث حتى أضمن أنه يخلو من أي شيء يتضمن «المعارضة»، ولكنني لم أكن أذكر كلمة واحدة! وصعدت إلى الطابق الأول لمقابلة رشاد رشدي فقابلني ببشاشة وقال لي: «برافو!» وأفهمني أنهم سمعوا ما قلته في الراديو وأن المسرحية بهذا قد أجيزت بصفة نهائية، ومن ثم جاءت سيارة التلفزيون وصورتها في اليوم التالي.
وقابلني مجدي وهبة في الكلية وهنأني على نجاح «البر الغربي»، وعندما ذكرت له ما حدث من الرقابة ضحك وقال «قدر ولطف!» وفهمت ما يعنيه، وامتد بنا الحوار إلى الماجستير واحتمالات السفر، ولكنه كان متشائما وقال لي: «الواحد موش عارف هم عايزين إيه؟» كان مايو 1964م شهر المسرح، ولم يكن شهر التفكير في الرسالة ولا في السفر، فكنت أستغرق تماما في قراءة النصوص المسرحية، وأختلي بنفسي ليلا في شقة الروضة لترجمة «روميو وجوليت»، وكانت لدي ست طبعات تتضمن شروحا وتعليقات مختلفة، أضعها متجاورة على المنضدة، وكنت أحيانا أقضي الليل كله في قراءة شروح صفحة واحدة وترجمتها، وكعادتي أعود إلى المنزل في الفجر لأنام حتى الحادية عشرة مثلا، ثم أستأنف عملي في الجامعة والمجلة طول النهار. وذات يوم تلقينا أنا وسمير موافقة الجامعات الأجنبية على تسجيل رسائلنا، وموافقة جامعة القاهرة على سفرنا في إجازة دراسية. لم يكن أمامنا سوى موافقة رئيس الوزراء، وكان دون ذلك خرط القتاد ؛ لأن الخروج من مصر مطلب عسير، وقال لي سمير سرحان ذات يوم، وكنا قد انتهينا تقريبا من امتحانات يونيو، إنه مصر على السفر والعودة وتحقيق أحلامه، وإنه لا يوافقني أبدا على فكرة الركون إلى الدعة والحصول على الشهادة من مصر والكتابة المسرحية! وفهمت ما يرمي إليه إذ كنت قد هيأت لنفسي نمط حياة شبه مستقر، وعملا بمبدأ الدكتور سويف وهو «تغيير الخطة» حين تتغير الظروف، غيرت خطتي فقررت احتراف الكتابة والاستقرار! وكان سمير مقنعا: لا بد لمن يريد التبحر في الأدب الإنجليزي واللغة الإنجليزية من الحياة مع الإنجليز ومعايشتهم وعدم الاكتفاء بقراءة ما يكتبون، وإذا كنا نريد أن نكون حقا أساتذة فلا مناص من السفر!
وأثناء عملنا في كونترول الامتحانات قال لي الدكتور صفي الدين أبو العز، الأستاذ في قسم الجغرافيا: إنه معجب بطموحي أنا وسمير، وهو يرجو لنا أن نشق طريقنا خارج الجامعة في الحياة العامة، وأنه من غير المعقول أن يحبس الإنسان نفسه طول العمر بين الكتاب والطالب إذا كان لديه القدرة، ولاحت له الفرصة، لكسر ذلك الحاجز والانطلاق! ولم أكن أعرف تماما ما يعنيه بالانطلاق، إذ كنا قد بدأنا الانطلاق إلى حد ما، ولكن الدكتور صفي الدين كان أبعد نظرا من ذلك - إذ همس لي، ونحن نعود من شرفة غرفة العميد إلى منضدة الرصد «إحنا قادة الفكر .. ولازم نكون قادة المجتمع.» ولم أنس ما قاله أبدا.
8
كان العمل في الحياة العامة هو السبيل الأوحد لتحقيق الهدف الذي ألمح إليه الدكتور صفي الدين أبو العز، وكان اتجاه رجال الثورة بصفة عامة، مهما قيل عن «اغتراب المثقفين» وعزلتهم أو عزلهم، هو التوسع في التعليم والاستعانة بالمتعلمين في إدارة الحكومة، وكانت الاتجاهات الاشتراكية التي لم تتبلور بعد تماما تتطلب الاستعانة بالفنيين، ربما إلى درجة الاعتماد عليهم في الإدارة، مع أن الإدارة منهج علمي لا علاقة له بالتخصصات الدقيقة في الجامعة، فالباحث في الكيمياء قد لا يكون مديرا ناجحا، وكانت الثورة تستعين ببعض المتقاعدين من الضباط في إدارة شركات «القطاع العام » وهي الأصول الاقتصادية التي أصبحت الدولة تمتلكها، وكان مبدأ التأميم قد اتخذ صورة جديدة هي تحويل ملكية المنشآت الخاصة إلى الدولة، وتعيين ضابط عظيم (أي من الرتب القيادية ابتداء من عميد) على رأسها. وكان أخي الصغير حسن قد تخرج في كلية العلوم وحصل على وظيفة كيميائي في مصنع أسمنت بورتلاند في حلوان، وبدأ يعرف دقائق العمل في الشركة، مثلما فعل محمد (ابن عمي) في شركة الحرير الصناعي بكفر الدوار. وكانت شركة الأجهزة العلمية وأدوات المعامل التي كان يملكها خالي عبد الحليم قد آلت ملكيتها إلى الدولة، وعين على رأسها ضابط عظيم، وعينت الحكومة فيها عددا من خريجي الجامعة ممن لا علاقة لهم بالعمل في هذا التخصص ، وتحول المكتب إلى ما يشبه المصلحة الحكومية بكل أنظمتها البيروقراطية، في حين أصبح خالي يتقاضى مرتبا شهريا باعتباره خبيرا. وتكرر نفس الشيء في مطحن الحبوب في رشيد الذي كان يملكه زوج عمتي، ومضرب الأرز الذي كان يملكه زوج خالتي الذي عينته الحكومة موظفا؛ باعتباره مستشارا أو «خبيرا» في شركة مضارب الزقازيق.
وكان ابنا خالتي (محمد الخطيب وصلاح الخطيب) يعملان مهندسين في الجيش، وكنت أناقش معهما الحكمة في تعيين الضباط على رأس الشركات الإنتاجية، دون أن تكون لهم خبرة بشئون الصناعة أو التجارة أو بفنون الإدارة (إدارة الأعمال). وكان الرد هو أن الضابط قائد والموهبة القيادية هي التي تساعد على إنجاز العمل، والحسم والحزم مطلوب في أمثال المرحلة الثورية التي تمر بها مصر.
وكان التزام الثورة بالتعليم وتعميم التعليم مجانا من الحسنات الكبرى التي تحمد للحكومة، ولكن ذلك ارتبط، للأسف، بالتزام آخر؛ هو تعيين جميع خريجي الجامعة في الحكومة، فالحكومة كانت بالتدريج قد أصبحت موازية للدولة وللقطاع العام (صاحب العمل الأول). ولا شك أن ذلك خلق روح اطمئنان كبير للمستقبل؛ فكل دارس أصبح «يضمن» وظيفة تدر عليه دخلا ثابتا، وتضمن له أن يتزوج دون مشقة وأن يجد مكان السكنى الملائم. وهكذا بدأ نمو جيش الموظفين الذين قد يعينون في أماكن تخصصهم أو في غيرها، إذ عين صلاح المعداوي (ابن خالة سمير سرحان) بعد تخرجه من قسم الصحافة في كلية الآداب مفتشا للتموين في قنا، وعين السيد بلال خريج الزراعة مدرسا للغة الإنجليزية (التي لا يعرفها تقريبا؛ لأنه درس مواده كلها بالعربية)، وعين علي أبو العيد (خريج الزراعة، قسم المحاصيل) مشرفا على مطعم المدينة الجامعية ... وهلم جرا.
كانت مكاسب التعليم هائلة، وروح إنصاف الفقراء والمعدمين تشيع في النفس الرضا والسعادة، ولكن عظمة الإنجازات كانت تخفي عيوبا لم يتح لها أن تظهر في الأجل القصير؛ فثروة البلاد قادرة على استيعاب الخريجين وترسيخ الإحساس بالاطمئنان، ولكن بوادر اهتزاز هذه الصورة بدأت تظهر بسبب حرب اليمن.
كان قد مضى على حرب اليمن عام ونصف فقط (إذ اندلعت في أواخر سبتمبر 1962م)، ولكن عملية تحويل اليمن من بلد يعيش في القرون الوسطى إلى بلد ينتمي حقا إلى القرن العشرين كانت شاقة، وكان أهم مجال تجلى فيه ذلك هو إصلاح الطرق! كان الجيش المصري يحتاج إلى طرق ممهدة في بلد تتميز أرضه بالتلال والهضاب والجبال، وكان لا بد من إرسال «وابورات الزلط» لإعداد الطرق هناك، وكانت تشحن بانتظام من مصر، وكان الضباط والجنود يتلقون مرتبات ومكافآت كبيرة، والحرب بعد هي الحرب، ولم تكن ميزانية البلد الذي يبني نفسه ويكافح لبناء السد العالي تسمح بالدخول في حرب لا عهد للجيش المصري بها على بعد مئات الأميال في الجزيرة العربية، وفقا لاعتراف الخبراء آنذاك وفيما بعد، وإن كنا جميعا نؤيد الدوافع النبيلة التي أدت إلى دخولها، كما أن أهل اليمن (والحق يقال) يقدرون لنا تضحياتنا كل التقدير حتى اليوم.
Halaman tidak diketahui