Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genre-genre
دخل النبي بردان وقال هاتوا الغطا،
شفتها غطت شفته.
وكان سبب الاعتراض هو أنه لا يليق ذكر العلاقة الزوجية للرسول في قصيدة حديثة، وبالعامية المصرية، وفي سياق الوحي الشعري الذي يجعل صلاح جاهين يضع نفسه في موقف رمزي «يوحي» بوحي النبوءة! ولم أجد شخصيا ما يمنع من ذلك آنذاك، ولا أعتقد أن «الرقيب» الرسمي كان يمكن أن يعترض، ولكن الإحساس بالخوف دفع الجميع إلى طلب السلامة؛ ومن ثم تغير البيت الأخير إلى «البسمة غطت شفته.»
وفي الصباح عندما دخلت حجرة الأساتذة في القسم وجدت الدكتور محمد أنيس أستاذ التاريخ الحديث يجلس إلى المكتب الذي اعتدت الجلوس إليه، وفرحت فرحا شديدا وأهرعت إليه أرحب به، وأشكو إليه نظام البطاقات الذي أعمل به في الماجستير؛ فقد زاد عددها على الآلاف ولم أعد أرى الطريق واضحا في تلك الغابة المدلهمة، وسألني عن موضوع البحث فذكرت له أنني أبحث في تطور الصورة الشعرية عند وردزورث، وأنني حائر في تقسيم الصورة وفقا للشكل أو للمضمون، وقال على الفور: إنك لن تستطيع تقسيم أي شيء إلى شكل ومضمون، ولكنك تستطيع متابعة خيط فكرة معينة أثناء تلونه بلون الشكل الفني، واستزدته فأفاض، ولأول مرة أحسست أنني بدأت أرى الطريق واضحا؛ فخيط الذكرى مثلا يتلون من صورة الاستدعاء المباشر للمشاهد والمسامع التي تقيم في وجدان الشاعر إلى صور معقدة تصبح فيها هذه الرؤى والأصوات رموزا للزمن، ومعنى ذلك أن تطور الإحساس قد أتى معه بتطور في الشكل الفني، أو أن الشكل الفني قد نبع من تطور خيط الفكرة! وفجأة قال الدكتور أنيس: هل قرأت قصة نجيب محفوظ بعنوان «الخوف»؟ وأجبت بالنفي، فشرع يلخصها، على نحو ما نشرت في «الأهرام»، بينما تجمع حول المكتب عبد المحسن طه بدر (الذي كان على وشك الانتهاء من رسالة الدكتوراه في قسم اللغة العربية عن تطور الرواية الحديثة) وسيد حنفي الذي كان يعد الدكتوراه في ديوان حسان بن ثابت، وغيرهم.
القصة بإيجاز هي أن أحد ضباط الشرطة الصغار عين في قسم بأحد الأحياء الشعبية في القاهرة، حيث يسيطر الفتوات فيه على أحوال الأسواق بل وعلى مصائر الجميع. ولم يجد الضابط وسيلة لإعادة النظام واستتباب الأمن سوى اللجوء إلى القوة العسكرية. فكان يأمر بإلقاء القبض على كل من يخالف القوانين ويرميه في الحبس. وذات يوم جاءه أحد الفتوات وقال له إنك تحكمنا بقوة «خارجية» غريبة عنا، ولن تستطيع أبدا بسط نفوذ القانون إلا إذا استخدمت سلاحنا نفسه؛ فهو السلاح الوحيد الذي نفهمه، أي سلاح الفتونة (أي قوة الفتوة). واستجاب الضابط على الفور، فخلع زيه الرسمي وارتدى زي أولاد البلد، وصارع الفتوات الواحد بعد الآخر حتى هزمهم جميعا، وأذلهم في الحي. وسرعان ما دان له الجميع بالطاعة ، فأقلع الجميع عن خرق القانون، وتوقفت الجرائم أو كادت، وشغل الناس بأمور دنياهم، ولم يعد ضباط القسم يجدون ما يفعلونه سوى رصد المخالفات الصغيرة، أما الضابط فقد وجد أن زي ابن البلد يلائمه، فلم يعد إلى ارتداء الزي الرسمي، وصار يقضي صباح أيام الشتاء جالسا في الشمس على باب أو على سلم القسم. لقد عاد النظام واستتب الأمن، ولكن إحساسا جديدا ساد الحي - وهو الإحساس بالخوف.
وقال الدكتور أنيس: هذا رمز واضح للثورة المصرية التي خلعت الزي العسكري، وهزمت الأحزاب السياسية (الفتوات) وأعادت الانضباط بثمن واضح هو الخوف! وقال له عبد المحسن بدر إن القصة رمز للتحول بصفة عامة، ولا تعني بالضرورة جمال عبد الناصر أو سواه، وذكرت أنا في هذا الصدد «قصة المسخ» (أو مسخ الكائنات) لفرانز كافكا، وكنت قرأتها بالإنجليزية، والتي تحكي عن تحول جريجور إلى حشرة، ومعناها في كافكا استعاري محض؛ فحياة البطل كانت في الواقع أقرب إلى حياة الحشرة، وكان الكاتب يرمز بالتحول إلى تجسيد الواقع النفسي في صورة مادية، كما ذكرت مسرحية «الخرتيت» ليوجين يونسكو؛ حيث يتحول الناس إلى خراتيت «استجابة لنداء الطبيعة» فيما عدا البطل «بيرانجيه» الذي يتمسك بآدميته حتى النهاية، ولم أجد في هذا ولا في ذاك دعما لتفسير قصة نجيب محفوظ، حسبما رواها محمد أنيس، ولكنني وجدت في الرقابة على شعر صلاح جاهين دليلا على الخوف!
الغريب أننا لم نكن نحس الخوف أبدا، بل على العكس، كنا نشعر بالقوة المتمثلة في روح التحدي التي يبثها الزعيم فينا، وكنا نرى في جمال عبد الناصر رمزا لعودة الروح التي تحدث عنها توفيق الحكيم. ولم تكن الأحداث السياسية توحي بوجود الخوف مطلقا؛ فأجهزة الإعلام تركز على امتلاك الشعب ناصية أمره، وأحيانا كانت الدبابات والمدافع تمر من ميدان الجيزة قاصدة أحد معسكرات منطقة الهرم، أو قادمة منها، فتشعرنا بالقوة؛ فهي أسلحة مصرية، وكانت كتب التاريخ تؤكد لنا عظمة الجندي المصري وقوته، وكان الدكتور لويس عوض الذي كان قد خرج من المعتقل يؤكد لنا على عبقرية إبراهيم باشا، ابن محمد علي باشا الكبير، باعتباره عقلا عسكريا نادرا، وكان يظهر حماسا للثورة لا يبدو منه أي غضب أو حزن بسبب اعتقاله تلك المدة. كان كل ما يعترض عليه هو «فرض» الاشتراكية باعتبارها بديلا للدين؛ إذ كان يفضل أن تنمو الأفكار الاشتراكية على أيدي المثقفين في إطار الديمقراطية، لا أن تفرض باعتبارها أمرا عسكريا. وكان كثيرا ما يقول إنه يختلف مع الدكتور محمد مندور بسبب تفضيل الأخير للديمقراطية على الاشتراكية، أو كما كان لويس عوض يقول: إن مندور ديمقراطي اشتراكي، أما أنا فاشتراكي ديمقراطي!
قلت إننا لم نحس الخوف أبدا، وكنت أنا بصفة خاصة أشعر بالبعد عن هذه الأفكار المجردة؛ فتطبيق الإصلاح الزراعي في بلدنا (رشيد) كان يجري في إطار مجتمع لم تتغير فيه الأنماط التي كانت سائدة قبل الثورة، مثل احترام المكانة التي تتمتع بها الأسر الكبيرة، وتقديم الرشوة علنا لمندوب الحكومة، وممارسة الخداع والكذب إزاء السلطة باعتبارها العدو التقليدي للشعب، وكانت أراضي الإصلاح الزراعي الجديدة، وهي الأراضي التي قام مصطفى النحاس باشا بتجفيفها من بحيرة إدكو أثناء حكومة الوفد قبل الأخيرة، أكبر دليل على سيادة هذه الأنماط. وكان مقر الإصلاح الزراعي في بلدة أو قرية «البصيلي» شاهدا يوميا على ذلك؛ فعندما يصل «المندوب» من الإسكندرية (أو من القاهرة) وهو مندوب هيئة الإصلاح الزراعي الذي يتولى التفتيش على سير العمل بأراضي الإصلاح تكون أقفاص الدواجن في انتظاره (الهدايا الريفية التقليدية)، إلى جانب ما تسمح به الأحوال من «شقاقي» (أي صفائح) السمن والزبد، وباقي الخيرات المعتادة، وبعد أن يتناول غداءه الذي كان لا بد أن يتضمن الحمام المحشي، يرحل بهداياه سالما غانما، وبعد توقيع الكشوف التي أعدها المديرون المحليون. وكان صديقي وزميلي السيد بلال (الذي تخرج الآن من كلية الزراعة وبدأ عمله في رشيد) يقص علي القصص بانتظام عما يحدث هنا وهناك - وكان الجميع يعرف ذلك، ولا يزيد عن الابتسام له.
3
وفي ربيع 1962م أيضا التقيت مصادفة بالأستاذ أمين الشريف الذي كان ما يزال يدرس الترجمة لدينا، منتدبا من وزارة الثقافة، وأريته أول كتاب ترجمته وهو «الرجل الأبيض في مفترق الطرق» فدهش وقال إنه لم يكن يعلم أن لدينا في جامعة القاهرة مترجمين محترفين، وعلى الفور طلب مني أن أحضر إلى مقر وزارة الثقافة (أحد مقارها في وسط البلد)؛ للعمل معه في ترجمة دائرة المعارف البريطانية! فقلت له إن لي صديقا ممتازا في الترجمة اسمه سمير سرحان، فقال لي: أحضره معك. وفعلا ذهبنا إلى المكان فوجدنا له رئيسا اسمه أبو الحجاج، ومعه مترجم سوداني لا يتحدث إلا الإنجليزية، وشخص آخر اسمه سليمان، وفهمنا المطلوب وكان كالتالي: كان علينا تفريغ أسماء جميع البابوات (بابوات روما) على بطاقات، وكانت قيمة المكافأة على كل بطاقة ثلاثة قروش!
Halaman tidak diketahui