Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genre-genre
كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا عندما دق جرس الباب، واتجه والدي إليه ليرى من الطارق فوجد «أم سميح» باكية، وكنت أقف خلفه في دهشة أتطلع إلى الوجه الباكي من فرجة بين ثوبه الأبيض وبين الباب، ولم أفهم كل ما قيل، ولكنني تابعت الحوار حتى انتهى وانصرفت المرأة، وأغلق والدي الباب عائدا إلى والدتي وهو يقول: «أم سميح تقول إن الذئب أكل البطيخ». لا أدري كم كان عمري إذ ذاك، ولكننا كنا قد تخطينا سنوات الحرب العالمية الثانية؛ ولذلك فلا بد أنني كنت قد تجاوزت السادسة. وارتدى والدي جلباب الخروج الذي يضرب لونه إلى الصفرة، وخرج في عجلة إلى الحقل، أو ما كان يسميه «الأرض».
ولم يكن بوسعي أن أذهب معه لأستجلي الأمر؛ فقد كان علي أن أذهب إلى المدرسة، وأرتدي زي المدرسة وهو «حلة» ذات سروال قصير، والطربوش، دون أن أحمل كتبا؛ لأن المدرسة كان بها «درج» يغلق بقفل، توجد فيه جميع الكتب والكراريس. وشغلت طول اليوم الدراسي بموضوع الذئب. لم أكن قد رأيت ذئبا في حياتي، وإن كانت صورته في ذهني أقرب إلى الوحش الأسطوري، وكان وجوده في ذهني مرتبطا بسورة يوسف، وكنت قد حفظتها في الكتاب، وترددت في سمعي آيتان
وأخاف أن يأكله الذئب ،
قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين . الذئب إذن وحش كاسر قادر على التهام غلام، وليس من المستبعد أن يلتهم ثمار البطيخ، وعندما عدت من المدرسة سألت عمي عبد المحسن الذي كان يسكن في الشقة المقابلة أن يحدثني عن الذئب، فقص علي بعض القصص، ومن بينها «ذات الرداء الأحمر»، وقصة الرجل الذي أراد أن يداعب أبناء القرية فصاح مستغيثا «الذئب الذئب!» فلما اكتشف الناس أنه يهزل لم يعودوا يصدقونه؛ ولذلك تركوه لمصيره عندما أتاه الذئب حقيقة وصاح مستنجدا في هلع حقيقي دون أن يكترث له أحد!
وعندما انصرف عمي قصت علي والدتي قصة «الذئب والحمل»، وهي من «خرافات» لافونتين، ولكنها قصتها بعربية ما زلت أذكر منها «يا هذا عكرت علي الماء!»، ولا بد أنها كانت في قصص المدرسة لديها. وحاولت في ذهني أن أتصور كيف يأكل الذئب البطيخ دون أن يقطعه، وظل اللغز قائما يمثل «بقعة زمنية» أعود إليها لأتصور الحوض الذي زرع فيه البطيخ، وكيف كنت أراه في أرض والدي صغيرا مصفرا ثم أخضر، وكيف يمكن أن يكون الداخل أبيض ثم يتحول إلى الأحمر، وعندما علمت من والدي أن اليوم الذي أكل الذئب البطيخ فيه كان اليوم المحدد للجني وحمله إلى السوق أو إلى منازل الأقارب، تصورت أن الذئب اهتاج للون الأحمر فظنه دما أراد أن يلعقه، أو نسيجا حيا يريد أن ينهشه.
كان المنزل يسمى «بيت عناني » وهو منزل حديث الطراز، يقع في شارع النيل؛ أي إنه كان يقع في الشارع الموازي للنيل، وإن كان يفصله عن المنزل منزل أو منزلان متجاوران؛ هما منزل الكسار (وأسرة الكسار من تجار الخشب)، ومنزل محارم (وهي أسرة أخرى يعمل رجالها بالتجارة)، وبين المنزلين فضاء يرى منه الرائي النيل، وهو فضاء يشغله بعض الصيادين الذين كانوا يرسون قواربهم لدى الشط، ويعملون فيه بإصلاح شباكهم ونشرها في الشمس. وكانت البلدة - وهي رشيد - تشغل مساحة كبيرة ممتدة على شاطئ النيل، ويبدو أنها كانت تزداد توسعا في كل يوم في اتجاه الشمال الذي نسميه «بحري» (أي ناحية البحر المتوسط - حيث مصب النيل)، وتزداد هجرا للمناطق الجنوبية التي كنا نسميها «قبلي» (أي في اتجاه القبلة)، وكان الحي البحري خصبا وافر النماء، تلتف فيه أشجار الموالح والنخيل، ويستمر ما بعد محطة القطار بكيلومترات عديدة. وأذكر فيه منزلا يسمونه فيلا بدر الدين، كان يملكه الأستاذ عبد القادر بدر الدين أحد نظار المدرسة سابقا، الذي كان يرتبط بصلة قرابة إلى أسرة والدتي. وكان ذلك المنزل يلوح على البعد بلونه الضارب إلى الحمرة، وتحيطه الأشجار، وربما كانت حديقة غناء، ولكن أحدا منا لم يكن يجرؤ على الاقتراب منه. فالناظر هو الناظر، وكان له من الهيبة ما يلقي الرعب في القلوب. وكانت تقع بالقرب منه بعض مضارب الأرز التي كانت تسمى «دوائر»، منها «دايرة» عناني؛ أي مضرب الأرز الذي كان يملكه جدي ثم ورثه الأبناء، ومضرب «عرفة»، وغيرهما. وأمامهما على امتداد النيل فضاء بالغ الاتساع يسمى «المنشر» أي المكان الذي ينشر فيه الصيادون شباكهم لتجف، وإن كنا نستخدمه ملعبا لكرة القدم.
ولا أذكر الكثير عن «بيت عناني»، وإن كنت أذكر أنه يتكون من ثلاثة طوابق، وكان له سطح فيه قبة مكشوفة، وأظنه لا يزال قائما حتى اليوم. وكانت الشقة التي نسكنها تتكون من غرف كثيرة، أهمها غرفة المكتبة، وكثيرا ما كنت أتطلع من وراء زجاج الدواليب (خزانات الكتب) إلى عناوين المجلدات التي تصطف في شكل هندسي بديع - «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب» و«العقد الفريد» و«نهاية الأرب» و«وفيات الأعيان» و«الأغاني» وهكذا - وأعجب مما عساها تقوله. وأذكر مرة كان والدي يحكي لي قصة يقرؤها في المكتبة عن قراد بن أجدع الذي عرض نفسه رهنا لسداد دين الأعرابي، وفحواها أن الملك النعمان بن المنذر ملك الحيرة أيام الجاهلية خرج في رهط له يصطاد، فضل عن الركب، ثم انتهى به الأمر إلى خباء أعرابي استضافه ثلاثة أيام حتى أدركه صحبه، فعرض عليه الملك أن يزوره في قصره ليجزيه أجر ما صنعه، وعندما وصل كان ذلك يوم نحس الملك. إذ إن الملك كان قد حدد يومين من أيام العام؛ يوم سعد، ويوم نحس، كل من يدخل عليه في يوم السعد يجازى خير جزاء، وكل من دخل عليه في يوم النحس يقتل. وعندما رآه الملك صاح: لو دخل علي ابني قابوس في هذا اليوم لقتلته! وإذ ذاك استسلم الأعرابي لأمر الملك ولكنه طلب منه أن يمهله عاما يصلح فيه من أحوال أهله، ويستعد للموت، ورفض الملك إلا أن يضمنه أحد الناس، فضمنه قراد بن أجدع. وكان الملك يأمل أن يذهب الأعرابي وينجو بحياته وأن يقتل قراد بدلا منه، وفي اليوم الأخير من العام قال قراد الشعر الذي كان والدي يحفظه، وهو مقطوعة تبدأ بالشطرة:
أيا عين لا تبكي قراد بن أجدعا!
واستعد الملك لقتل قراد، وأحضر السيف والنطع، ولكن قرادا أصر على الانتظار قائلا البيت الذي جرى مجرى الأمثال:
فإن يك صدر هذا اليوم ولى
Halaman tidak diketahui