Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genre-genre
كانت القاهرة حلما كبيرا يصعب تصديقه، وعندما استقر بنا المقام في حي العجوزة، بدت لي المنطقة مزيجا من رشيد والإسكندرية؛ فهي تطل على النيل، وقرية العجوزة لا تزال على حالها ريفية مغرقة في طابعها الريفي، فوراء مدرسة الأورمان تقع الحقول الشاسعة، فإذا تجاوزت المتحف الزراعي رأيت القصب، وكان منظره مميزا لاختلافه الشديد عن محاصيل رشيد (السمسم والذرة) وشاهدت الهضبة الغربية في الأفق، وأهرام الجيزة. أما إذا عبرت النيل عند كوبري بديعة (كوبري الجلاء الآن) فستجد نفسك وسط حدائق لا نهاية لها؛ إلى اليمين حدائق مترامية، وإلى اليسار أرض المتاحف بالجزيرة، وعندما تعبر الجزيرة تصل إلى كوبري قصر النيل حيث تمثالا الأسدين الرابضين، فإذا عبرت الكوبري وصلت إلى ميدان التحرير، ومنه تتفرع أهم شوارع القاهرة القديمة، قاهرة المعز لدين الله الفاطمي في شرق النيل، حيث تلال المقطم ومسجد محمد علي، أما وسط البلد فهو أوروبي في كل شيء؛ شوارع فسيحة مرصوفة نظيفة، وعمارات ذات معمار إيطالي، بشرفات مزينة بتماثيل، ونحت بارز، ودكاكين فاخرة، ودور للسينما، وسيارات حديثة الطراز، لا تصدر ضجيجا أو دخانا، وترام يعبر شارع فؤاد (26 يوليو) ويدور حول حديقة الأزبكية (ثم تحول إلى اختراقها)؛ ليصل إلى ميدان العتبة الخضراء، التي تعتبر قلب المدينة. فيها مبان مقامة على أقواس (بواكي) ومسرح الأزبكية، وشارع الملك عبد العزيز آل سعود، ثم شارع محمد علي الذي يؤدي إلى باب الخلق حيث دار الكتب، ثم إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي.
ما هذا الاتساع! حتى المدرسة كانت شاسعة، فيها ملاعب نظيفة وساحات، وفناء ضخم، أحيانا توضع فيه شبكة للعب الكرة الطائرة، ومكان مغلق للجمباز وألعاب القوى، وكانت الفصول تطل على الفناء، وبعضها يطل على شارع مرقص حنا، والبعض الآخر ومنها سنة خامسة أدبي حيث كان مكاني، يطل على الحقول وعلى بعض المساكن البعيدة. وكان «المستوى الاجتماعي» كما يقولون يتناقض تناقضا شديدا مع مستوى رشيد الثانوية؛ فكان لأحد الطلبة (ناجي عبد السلام) سيارة «ستروين» تقف خارج المدرسة، وكان آخر (محسن مرسي) ابنا لمدير جامعة القاهرة، وثالث من أسرة عريضة الثراء، وسرعان ما أدركت أنني أواجه لونا جديدا من التحدي، ولكن الابتعاد عن رشيد كان موجعا للقلب، ولم ألبث أن وجدت ما أكتب عنه، فوجدت بيتا يرن في أذني؛ أولا في صورة شطر وحيد هو «تركت رشيد الحب والصفو والصبا» ثم اكتمل في آخر اليوم الدراسي «وكيف يعيش المرء إن فاته الحب»، ومكثت في غرفتي ذلك اليوم أعالج القصيدة وأنابذها.
وقررت أن تكون مقطوعة كاملة، تبدأ بقافية موحدة، وحبذا لو توافرت براعة الاستهلال أيضا، فكتبت:
تضيق بي الخضراء إن شرد اللب
وتنبذني البيداء إن وجب القلب
تركت رشيد الصفو والحب والصبا
وكيف يعيش المرء إن فاته الحب
هناء رفيق يغمر النفس باسما
شعاع بعين الكون باركه الرب
يدف دفيفا خافتا في خواطري
Halaman tidak diketahui