Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Genre-genre
وتوالت الأصداء حتى اكتسبت أبعاد الأزمة حين طالب بعض الصحفيين بعزل ذلك الأستاذ وإدانته علنا، وإذا بمجلس أمناء الجامعة يصدر حكما بتبرئته من كل شيء، وقال في حكمه: «إنه إذا كانت بعض الأرقام التي وضعها الأستاذ غير مستقاة من الواقع، فهي لا تتنافى مع الواقع، وهي منطقية وتتفق في مجملها مع ما توصل إليه غيره من الباحثين وما توصل هو إليه نفسه من استقراء الوقائع الثابتة.» ومن ثم قرر مجلس الجامعة تثبيته في منصبه، واعتبار اعترافه بمثابة أداة غفران، وصك اعتذار عن ذلك البحث، مما يؤكد أن سائر بحوثه صادقة وهي تؤهله لشغل منصب الأستاذية .
أي إن منطق المجلس كان يقول إن ضمير الأستاذ الذي استيقظ قد نجاه، وإن له ضميرا قادرا على الاستيقاظ دائما، ولكن المعترضين شككوا في الفرضية، وكان من أشد المعترضين الأستاذ المشهور «هانز أيزينك» وهو يهودي من أصل ألماني، كان ينادي مثل الأستاذ المتهم (والمعترف) بالتزوير، بتفوق الجنس الأبيض، بل إن التشكيك في بحث ذلك الأستاذ جعله يعمل على امتداد أربعة أعوام في تأليف كتاب أسماه تفاوت البشر
The Inequality of Man
نشره فيما بعد، بعد أن وضع فيه أدلة إحصائية لا يتصور أن أحدا يستطيع أن يدحضها، وقد يبدو أن تلك مفارقة، وقدم لها الكتاب تفسيرين، كان الأول كما يلي:
يسود الاعتقاد في الأوساط العلمية الأوروبية أن التعميم خطأ، وأن القاعدة ذات الصحة المطلقة لا تصدق إلا على الجوامد، أما في العلوم الإنسانية فلكل قاعدة شواذ، وعلى كل مؤسسة (مجموعة من العلماء) أن تقدم من حين إلى آخر كبش فداء (a scapegoat)
يعتبر الحالة الشاذة التي تؤكد صحة مناهج سائر العاملين في كل مجال على حدة، وهكذا أراد أيزينك أن يكون ذلك «العالم» هو كبش الفداء، وأن يلفظ من مجتمع العلماء حتى تتوافر للآخرين المصداقية والموثوقية. وأما التفسير الثاني فكان كما يلي:
كان أيزينك قلقا؛ لأن العالم المتهم قد أدرج معايير «تاريخية» و«دينية» تتضمن إدانة للجنس اليهودي؛ ولذلك فإن استبعاده بسب «تزوير الإحصاءات» سوف يضمن عدم المساس باليهود وإنكار القول بأنهم طائفة تتسم بصفات نفسية معينة مما قد يلقي بالشك على أبحاث أيزينك نفسه! ونادى أصحاب هذا التفسير بنشر بحث الأستاذ المتهم (ولم يكن قد نشره إلا في مجلة متخصصة لم تطبع منها سوى مائة نسخة) وتوزيعه على نطاق واسع حتى يستطيع العلماء أن يستبعدوا الإحصاءات المزورة ويدرسوا المنهج «التاريخي» و«الديني» الذي اتبعه في التحليل.
وفي خضم المناقشات نشرت الصحف حادثة الدكتور أشرفي، وهو رجل من أفغانستان، وصفوه بأنه شعلة من ذكاء، جاء قبل عشر سنوات بشهادة مزورة من جامعة كابول تقول بأنه حصل على البكالوريوس في الطب النفسي، وسمحت له السلطات الطبية بممارسة المهنة، فبزغ نجمه فيها وذاع صيته، واغتنى وفتح لنفسه عيادة كبيرة يعمل فيها كثير من الأطباء الإنجليز، وتزخر بالممرضات والأثاث الفاخر والأدوية والكتب، ولم يعد أحد يتساءل عن تخصصه، لا سيما بعد أن أصبحت عيادته كعبة يحج إليها أبناء الطبقة الراقية، بل وأصبح الأجانب يؤمونه، وخصوصا ذوات الثراء الفاحش من الأمريكيات اللائي عجزن عن شفاء أنفسهن في أمريكا!
كان المجلس الطبي البريطاني في حيرة من أمره؛ فقد حكم بشطب اسمه من سجل الأطباء بسبب عدم حصوله على درجة علمية تؤهله للعمل، وطالب بترحيله إلى بلاده، ولكن وزارة الداخلية ترفض ذلك لأنه تزوج من إنجليزية، وتجنس بالجنسية الإنجليزية، ولم يعد لها سلطان عليه! ومما زاد الطين بلة أن الأطباء الذين يعملون معه شهدوا له بمهارة لا تتوفر في كبار الأساتذة، وكتبوا عريضة ضموها إلى طلب استئناف الحكم الذي أصدره المجلس، وانقسم الصحفيون ما بين مؤيد ومعارض للترحيل، وظهر أيزينك في التليفزيون البريطاني ليعلن إدانته الشديدة لذلك المزور، وليشرح أسباب اعتقاده باستحالة نبوغ رجل من أفغانستان، حتى من باب الاستثناء، مما أثار كثيرا من المشاهدين.
وفي غضون ذلك توفي الأستاذ الذي كان قد اعترف بالتزوير، وفجأة توقفت أنباء المنافسات العلمية، وحل في الصحف محلها نبأ هجوم رأس السنة الذي شنته قوات الفيت كونج على الأمريكيين، وإصدار الرئيس جونسون أمرا بتكليف قرابة خمسة عشر ألفا بالذهاب إلى فيتنام، ولم نعد نعرف ماذا حدث للدكتور أشرفي، ولا ما انتهت إليه قضية ترحيله، وكأنما الأرض ابتلعته!
Halaman tidak diketahui