119

Wahat Cumr

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

Genre-genre

أجبته إجابات يبدو أنها أسعدته؛ إذ قال إنه درس بعض أشعاره في المدرسة، وعندما بدأ يلقي بعض أبيات من قصيدة له، أكملتها له فضحك، وتمنى لي حظا سعيدا وسلمني الجواز، وطلب مني أن أتجه بعد أن يستقر بي المقام إلى أقرب مخفر شرطة لتسجيل نفسي (اسمي وعنواني) واستخراج بطاقة إقامة، وانصرفت.

وعندما وصلت إلى منطقة الحقائب وجدت حقيبتي المنتفخة، فحملتها حملا فلم تكن لها عجلات، ولم يكن بالمطار حمالون أو عربات لنقل الحقائب، وعندما وصلت إلى موظف الجمارك طلب مني أن أفتحها ففتحتها، ثم قال كلاما لم أفهم منه إلا أنه يطلب مني إغلاقها، وبعد أن أغلقتها أشار لي إلى باب الخروج، فسرت مثقلا بطيء الخطو حتى كدت أن أتعثر فتوقفت. وقبل أن أخرج، ناداني أحدهم فالتفت إليه، فطلب مني الاقتراب تاركا حقيبتي في مكانها بجوار الباب.

واصطحبني هذا الموظف إلى رجل الجمارك الأول، وكان يواجه فيما يبدو مشكلة من نوع ما، ولم يستطع أن يشرح لي المشكلة. ولمحت إلى جواره راكبا مصريا يتحدث بلهجة أهل الصعيد، وقد بدا الارتباك على وجهه، ولاحت حبات العرق على جبينه، وانعقد لسانه بعد فترة فلم يعد يتكلم لا بالإنجليزية ولا بالعربية! وسألت المصري سؤالنا التقليدي «خير؟» فأشار إلى الحقيبة التي أتى بها، ونطق بعبارات مقتضبة لم تفصح عن الكثير، فسألت موظف الجمرك إن كانت المشكلة خاصة بما يحمله، ففتح الحقيبة وإذا بغطائها قد انتظمت فيه خيوط مثبتة في الجانبين، وبها أعداد كبيرة من حبات البامية الناشفة (المجففة) فبدت كأنها خيوط مسبحة أو عدة مسابح طويلة، وحدست أن والدته أو زوجته هي التي أعدتها له طعاما في الغربة، وكانت الصفوف المنتظمة المعلقة في غطاء الحقيبة الداخلي تشبه الرصاصات الصغيرة التي يضعها الجنود حول أسلحتهم أو على صدورهم فيما مضى من الزمان. كان المصري حائرا لا يدري كيف يقنع الموظف أن هذه «الطلقات» هي طعام مصري محبب، والموظف يلح في سؤالي عن سبب إحضار هذه الأشياء إلى لندن، خصوصا؛ لأن الزائر ليس طالبا، بل كان في الواقع من أقرباء ضابط في الجيش يعالج من إصابة أصيب بها في حرب اليمن، وكان قد أتى له بهذا الطعام المصري لكي يطبخه له في المستشفى، ونصحت الزائر ألا يذكر قريبه الضابط، وأن يتخلى عن البامية إذا أصر موظف الجمرك على ذلك، ولم يطل انتظارنا إذ حضر اثنان من زملاء الموظف، وقالا إن رئيسهما يصر على عرض الأشياء الغريبة على الخبراء، ويصر على رفض السماح للمصري بالدخول إلى بريطانيا، ولما تحمست في تبيان «مناقب» البامية، قال أحدهما لي: وما يدرينا أنها ليست مخدرات؟ واستبعدت ذلك القول بحزم وقوة، وإزاء نبراتي الواثقة، قال أحدهما: سنسمح له بالدخول بضمانك أنت، ووافقت، ووقعت في ورقة صغيرة، ثم طلب الموظف من المصري أن يفك خيوط البامية، ففعل ذلك والحزن يعتصره، وقدم له أحد الموظفين كيسا شفافا (نايلون) وضع البامية فيه، و«حرزها»، وألصق عليها بطاقة تحمل اسم المسافر ورقم جواز سفره، وسمح له بالذهاب.

وعندما خرجت من المطار كان علي أن أجد مكانا أقضي فيه الليل قبل أن أذهب إلى الجامعة في الصباح، وأن أذهب أيضا إلى مكتب البعثات، وكنت أحفظ عنوانه وأكرره حتى لا أنساه. وكان علي أن أذهب إلى المدينة أولا وأن أسأل مثل بطل قصيدة حجازي «يا عم من أين الطريق؟» ولم تطل حيرتي إذ تقدمت مني فتاة هندية وقالت بلهجة إنجليزية كتب علي أن أعيش معها سنوات طويلة فيما بعد: هل تريد الذهاب إلى لندن؟ فأومأت بالإيجاب فقالت إذن هيا - سوف نشترك في سيارة أجرة خاصة - وفي لمح البرق كان السائق قد وضع حقيبتي في السيارة، وأجلسني إلى جواره، والهندية وأصحابها في المقعد الخلفي، وانطلقنا نحو لندن، وفي الطريق سألني السائق بلهجة أولاد البلد في لندن (

Cockney ) عن المبلغ الذي سأدفعه له وأدركت مرماه على الرغم من أنني لم أفهم كل كلمة قالها، فقلت له بلهجة عرفت فيما بعد أنها لهجة المثقفين والأجانب «خمسة شلنات» فقال

fair enough

وأردفها بكلام كثير لم أفهم معظمه، ولكنني تساءلت في نفسي عن معنى العبارة، وعما إذا كانت تنم عن الرضا حقا، وظللت طول الرحلة أتأمل الطريق الذي تقوم الأشجار على جانبيه، والسيارات وهي مارقة بسرعة فائقة، وشمس مايو الجميلة وهي تسطع على الخضرة من حولي.

ووصلنا إلى محطة فكتوريا، ودفعت إلى الرجل ما طلبه، ثم اتجهت إلى سيارة أجرة رسمية، من التي ما تزال تعمل في لندن، وطلبت من السائق أن يتجه بي إلى أحد بيوت الشباب، وكان معي عنوانه، وانطلقنا على الفور، وعندما وصلت رأيت أن العداد يقول أربعة شلنات، ففعلت ما أوصاني به الأصدقاء بأن أضفت إليها بقشيشا قدره نصف شلن (ستة بنسات)، وتناول الرجل النقود دون تعليق سوى كلمة مقتضبة هي “Ta, guv”

اكتشفت فيما بعد أنها تعني «شكرا يا أستاذ» وأنها تتكون من كلمتين لا كلمة واحدة هما العامية الدارجة لتعبير “Thanks, Governor!” ، وفي بيت الشباب اكتشفت أن أجر المبيت (مع الإفطار) هو 15 شلنا، وكان معنى هذا أنني إذا لم أسرع إلى مكتب البعثات للحصول على المال فسوف أفلس بعد قليل؛ إذ كان كل ما سمح لي بحمله من النقود عندما خرجت من مصر هو خمسة جنيهات استرلينية أنفقت منها أكثر من جنيه في يوم واحد. وبعد أن وضعت حقيبتي في الغرفة خرجت للسير في الطريق الواسع الممتد، والربيع يكسو المنطقة بالزهور والخضرة الزاهية والدفء الجميل.

محمد عناني وعيسى موسى (من ليبيا) والدكتور/نعيم إليافي (من سوريا) يمسك المظلة.

Halaman tidak diketahui