ولم يكد يبلغ «أبا بكر» هذا النبأ حتى أقبل عليهم بأقصى ما في قدرته من سرعة، ومعه عمر، وأبو عبيدة - وما كادوا يصلون حتى انبرى عمر للكلام فمنعه أبو بكر - وله كل الحق فيما فعل - خشية من تحمسه واندفاعه، وقال له: «تريث حتى أتكلم ثم قل ما شئت بعدي.» •••
وبدأ أبو بكر يخطب في الناس - بكل تواضع - فاعترف للمدنيين بما قاموا به من خدمات جليلة للإسلام، ثم أظهر لهم - إلى هذا - جدارة المهاجرين بالخلافة؛ لقرابتهم من الرسول وكونهم من أسرته، ثم لأنهم أول من دان بالإسلام، وقد لقوا في سبيله ألوانا من العسف، وضروبا من النكال، واحتملوا ذلك كله صابرين!
ثم قال: «فأنتم تلوننا في هذه المرتبة، فليكن الأمير منا والوزراء منكم.» فأجابوه: «بل منا أمير ومنكم أمير!»
فصاح عمر: «كلا، ومحال أن نولي أميرين، ولن تعترف العرب بمن تختارون؛ فليس نبيهم من قبيلتكم، ولن يخضعوا لأحد إلا أن يكون قريبا للنبي، ومن رفض ذلك أرغمناه على قبوله إرغاما.»
وحمي وطيس الكلام، وكاد اللجاج ينقلب خصومة؛ لو لم يقل لهم «أبو عبيدة»: لقد كنتم أول ناشر للإسلام، وأول معين للنبي، فلا تكونوا الآن أول ساع في التفرقة وتشتيت الوحدة الإسلامية.
وهنا قام «بشير» - قريب «سعد» ومنافسه - فقرر ما للمهاجرين المكيين من الحقوق في أعناق المسلمين، فأثر كلامه في نفوس فئة من الخزرج، ولكن الأثر لم يبلغ أشده إلا في نفوس القبيلة المدنية الأخرى، وهي قبيلة «الأوس»، بسبب ما كان بينها وبين قبيلة «الخزرج» من نفور قديم جعلهم لا يرتاحون إلى سعد، ولا يرضون به أميرا عليهم، وكانوا - منذ لحظة - يقررون حق المهاجرين وجدارتهم بالخلافة، فلما سمعوا كلام أبي عبيدة ثبتوا على رأيهم، وظاهروا المهاجرين على الأنصار.
وبذلك سنحت فرصة ملائمة، فأسرع أبو بكر إلى انتهازها وأمسك بيده - عمر وأبا عبيدة - داعيا المدنيين إلى اختيار واحد منهما لمبايعته بالخلافة، فصاحا في نفس واحد: «بل أنت خير منا، فامدد يدك نبايعك ونقسم لك على الخضوع والطاعة.» وامتدت بين يديهما يد ثالثة إلى يد أبي بكر، وهي يد «بشير» الذي أسرع بمبايعته معهما؛ ثم نهج الأوس منهجه وأقبل المسلمون يبايعونه أفواجا، واشتد الزحام وعلت صيحات الفرح؛ فاختلطت بأصوات الدهشة، وأراد حباب الخزرجي أن يناوئ الدعوة فصرخ مهددا بالحرب، واستل سيفه فانتزعه «عمر» من يده.
ورأى «سعد» آماله في الخلافة تتبدد هباء، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد أصبح «سعد» نفسه في خطر حين تكأكأت عليه الجموع، فكادت تسحقه - وهو في محفته التي كان محمولا عليها - وعبثا حاول أصحابه أن يقنعوا جمهرة المسلمين بوجوب احترامه؛ فإن «عمرا» نفسه لم يتورع عن إهانته ووصفه بأقبح النعوت - على الرغم من أنه خصم أعزل جليل القدر - وقد تداركه أبو بكر فصد هذه الجموع عنه وأنقذه من أذاهم وشرهم. •••
وإذن فقد تم انتخاب الخليفة - خليفة النبي - وسط هذه الفوضى الشاملة، كما اعترف بهذه الحقيقة «عمر» نفسه على ملأ من الناس في المسجد المدني فيما بعد. وقد كسب المكيون بهذا الفوز أمرين: «زعامة العرب، وحسن اختيار الخليفة».
فقد ولوا أمورهم رجلا كان أخلص صديق لنبيهم، ولو ترك أمر اختيار الخليفة إلى الرسول فقد لا يختار سواه؛ ذلك أنه جمع - إلى حبه الرسول - متانة الإيمان وقوة اليقين وصدق العزيمة في إعزاز الإسلام ونصرته.
Halaman tidak diketahui