ولم يطل تفكير قريش ولا ائتمارها، وإنما آثروا العافية والسلامة والمال، فقالوا: قد رضينا، فدلنا على مالك. فأنبأهم بمكانه وانصرفوا عنه، ومضى هو في طريقه حتى بلغ رسول الله وقد أدركه من الجهد والكد ومن الظمأ والجوع ما كاد يأتي عليه.
17
هاجر عبد الله بن مسعود إلى المدينة، كما هاجر إليها غيره من المهاجرين، فنزل على معاذ بن جبل أو على سعد بن خيثمة، يختلف رواة السيرة في ذلك، وأقام عبد الله عند مضيفه حتى خط رسول الله للناس دورهم في المدينة، فخط لبني زهرة في مؤخر المسجد، وقال حي منهم للنبي: نكب عنا ابن أم عبد. كأنهم كرهوا نزوله بينهم. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «فلم يبعثني الله إذن؟! إن الله لا يقدس قوما لا يعطى الضعيف منهم حقه.» ثم أنزله منزله بينهم كريما.
ولم يكد عبد الله يستقر في المدينة حتى كان ألزم الناس للنبي، وأشدهم اتصالا به في حياته العامة والخاصة، يحجبه
243
إذا دخل داره، ويسعى بين يديه إذا خرج منها، وكان أصحاب الحديث يقولون: إن ابن مسعود كان صاحب سواد رسول الله ووساده ونعليه وطهوره.
كان أثناء الإقامة يقوم على حجرته حاجبا، لا يخفي النبي عليه من سر إلا ما يؤمر بإخفائه، فإذا هم النبي أن يخرج ألبسه نعليه، ومشى بين يديه بالعصا، حتى إذا جلس نزع نعليه فأدخلهما في ذراعه وأعطاه العصا، فإذا أراد أن يقوم ألبسه نعليه وأخذ منه العصا فمشى بها بين يديه حتى يبلغ الحجرة فينحي ستارها ويدخل قبل النبي، حتى إذا دخلها النبي نزع نعليه وخرج فقام أمام الستر حاجبا، فإذا خرج النبي في السفر فابن مسعود صاحب وساده إذا نام، وصاحب طهوره كلما أراد الوضوء، وكان النبي إذا أراد أن يغتسل في بعض سفره قام ابن مسعود من دونه يستره، حتى لم يشك كثير من أصحاب النبي أن ابن مسعود كان من أهل بيته، فليس غريبا إذن أن يكون أحفظ الناس للقرآن وأكثرهم سماعا عن النبي. ثم أصبح بعد النبي أكثر الناس تعليما للقرآن وأقلهم رواية لحديث النبي، يتألم من ذلك ويخافه أشد الخوف. وكان النبي يؤثره ويكبره ويدافع عنه ويشيد به، حتى قال ذات يوم: لو كنت مؤمرا أحدا دون شورى المسلمين لأمرت ابن أم عبد.
وأمره ذات يوم أن يصعد في شجرة فيجني له من ثمرها، فلما جعل يصعد في الشجرة نظر أصحاب النبي إلى دقة ساقه وحموشتها
244
Halaman tidak diketahui