وكان أبو جهل يسمع لهذا الذكر فيخفق له قلبه وتخشع له نفسه، ولو قد أرسل طبعه على سجيته لقال كما سمع بعض أولئك الرهط يقول لعبد الله بن مسعود في صوت تحتبس فيه الزفرات: إني والله لأحب أن أكون من هؤلاء. ولكن أبا جهل لا يرسل طبعه على سجيته، وإنما يدعو حسده وكبرياءه وأنفته، ثم ينصب على أولئك الرهط كما ينصب الصقر على فريسته وهو يصيح: بؤسا لكم من رهط سوء! ما رأيت كاليوم جراءة، إنكم لتجتمعون حول هذا الرجل وتستمعون له وليست أندية قريش منكم ببعيد، فما يمنعكم أن تقتحموا علينا المسجد وأن تتحلقوا فيه؟! ولم يكد أولئك الرهط يرون ذلك الشخص البشع، ويسمعون ذلك الصوت المنكر حتى تفرقوا سراعا. وظل ابن مسعود قائما مكانه لا يريم،
193
فيدنو منه أبو جهل مغضبا وهو يقول: ويلك يا ابن أم عبد! ما تزال تفسد علينا أحلافنا ورقيقنا، وما أراك منتهيا حتى تصيبك مني بائقة.
194
وهم ابن مسعود أن يرد عليه مقالته، ولكن أبا جهل لا يمهله، وإنما يعلوه بالقوس فيشجه، وقد أخذ الدم يتحدر على وجهه، ولكنه لم يحفل بذلك، وإنما يسرع في خفة إلى أبي جهل وهو يقول: فأما إذا فعلت ما فعلت فخذها وأنا فتى هذيل! ثم يدفع في صدر أبي جهل بإحدى يديه ويلطم وجهه بيده الأخرى، ثم ينصرف عنه مستأنيا متمهلا، ويتركه قائما واجما قد أخذه الذهول. لم يكن يقدر أن حليفا من أحلاف قريش يستطيع أن يدفع في صدره ويلطم حر وجهه، ثم تثوب إلى أبي جهل نفسه، فيصيح بابن مسعود: لن تفلت بها يا راعي الغنم.
قال ابن مسعود: ولن تفلت بما فعلت يا عدو الله.
ويمضي كلا الرجلين إلى أصحابه، فأما ابن مسعود فيلقى رهطا من أصحاب النبي، فيقول لهم وعلى ثغره ابتسامة وفي عينيه دمعتان تترقرقان: لا مقام لي بمكة منذ اليوم؛ فقد لطمت وجه أبي جهل، والله إني بالهجرة لفرح، وإني بها لمحزون: فيها ثواب الله ومغفرته، وفيها فراق رسول الله دهرا لا أدري أيقصر أم يطول. وأما أبو جهل، فيعود إلى نادي قومه وقد انكسرت نفسه واستخذى ضميره، ولكنه على ذلك يظهر الغضب والكبرياء ويقول لأهل ناديه: ويحكم يا بني مخزوم! إن كانت لكم بقية من عزة فأمكنوني من ابن أم عبد؛ فإنه قد أتى إلي ذنبا لا يغسله إلا دمه. ويلتمس القوم عبد الله بن مسعود في مكة وما حولها فلا يظفرون به ولا يقدرون عليه، ولا يرى أبو جهل خصمه إلا يوم بدر.
12
أقبل سلام بن حبير القرظي من الشام - كعهده في كل عام - بتجارة عظيمة فيها فنون من العروض وضروب من المتاع، بعضه مما تخرج الشام، وبعضه مما يصنع أهل الجزيرة، وبعضه مما تحمله الروم إلى دمشق وبصرى وتبيعه من قوافل العرب واليهود ليحملوه إلى الأرض البعيدة التي لا تصل إليها يد قيصر ولا يبلغها سلطانه في نجد والحجاز وفي تهامة واليمن. ولم يكد سلام بن حبير يستقر في بني قريظة ويريح نفسه من سفر شاق طويل حتى عرض متاعه ذاك المختلف للناس، فأقبل عليه أهل يثرب من الأوس والخزرج، وأقبل عليه من حول يثرب من يهود ينظرون ويشترون. ولم تمض أيام حتى كان سلام بن حبير قد باع تجارته وأفاد منها مالا كثيرا، ولولا هذا الصبي الذي عرضه سلام على العرب فرغبوا عنه، وعلى اليهود فزهدوا فيه، لرضيت نفس سلام كل الرضا، ولأنفق الأشهر المقبلة مطمئنا مغتبطا مجولا في أحياء يثرب مرسلا رقيقه وأحلافه فيما حول يثرب من أحياء العرب واليهود وفي أعماق البادية، يجلبون له من المتاع الذي يحمله إلى الشام متى أقبل فصل الرحلة إلى الشام. ولكن هذا الصبي كان غصة
195
Halaman tidak diketahui