Virtues of the Companions - Muhammad Hasan Abd al-Ghaffar
فضائل الصحابة - محمد حسن عبد الغفار
Genre-genre
فضائل الصحابة - مقدمة
لقد اختار الله ﷿ الصحابة الكرام لصحبة نبيه ﷺ، وشرفهم برؤيته ﷺ، جاهدوا معه، وحملوا راية الدين إلى أرجاء الدنيا، وقدموا نفوسهم وأموالهم من أجل إعلاء كلمة الدين، فصدقوا مع الله ﷿ فجعلهم خير أمة أخرجت للناس، وقد جاءت النصوص الكثيرة ناطقة بفضلهم، وشاهدة على حسن بلائهم؛ ولذلك كانت منزلتهم أعظم منزلة، ورتبتهم أعلى رتبة.
1 / 1
فضل صحابة رسول الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: أيها الإخوة الكرام! قال الإمام مالك ﵀: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأول صلاح هذه الأمة هو الاستنارة والاستضاءة بنور الوحيين، فإن صحابة رسول الله ﷺ أضاءوا الدنيا بشموسهم وبأفاضلهم وأكارمهم وأماجدهم -صحابة رسول الله ﷺ أبر الناس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأحسنهم خلقًا، فهم الذين نزلت عدالتهم من فوق سبع سماوات، فإذا أراد المرء منا أن يرتقي أو يتقدم أو يفوز بعلو الدنيا وعلو الآخرة فلابد من أن يستضيء بنور هؤلاء ويسير على خطاهم، فهم الذين عضوا بالنواجذ على سنة النبي ﷺ، كما أعلنها أبو بكر ﵁ وأرضاه لـ عمر بن الخطاب الذي قال فيه النبي ﷺ: (عمر ينطق بالحق، أو معه الحق، وإذا سلك عمر فجًا سلك الشيطان فجًا غير فج عمر).
فـ عمر نفسه استضاء بكلمات من نور أبي بكر ﵁ وأرضاه عندما قال له: يا عمر! الزم غرز رسول الله ﷺ، فإنه رسول الله ولن يضيعه الله.
ونحن نعلنها كما أعلنها أبو بكر، ثم نعلنها كما أعلنها عمر وعثمان وعلي أننا والله لا رقي لنا ولا علو ولا رفعة ولا تنقشع عنا هذه الكربة ولا ترتفع عنا هذه الغمة إلا بالتمسك بخطى هؤلاء.
وقد حق لنا أن نبين فضل هؤلاء الصحابة الذين سادوا وقادوا الدنيا في مدة وجيزة من الزمن، والذين رفعهم الله وأجلسهم على عرش الدنيا في مدة وجيزة من الزمن.
إن صحابة رسول الله ﷺ هم خير الناس اختارهم الله لخير نبي ﷺ، فقد قال فيهم الله تعالى من فوق سبع سماوات: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران:١١٠]، وهذا دليل صريح على أن صحابة رسول الله هم خير أمة، وخير صحبة لخير نبي؛ لأن هذه الأمة هي خير الأمم.
وقال ﷿: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح:٢٩]، وهذا أعلى تزكية، وأعلى رفعة لهؤلاء الصحابة، فهي أرقى ما يكون من تعديل وتزكية، قال الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح:٢٩] وذلك بدلالة الاقتران، فقد قرنهم مع رسول الله ﷺ، ورسول الله هو أحب خلق الله إليه، فلا يقرن الله جل وعلا مع رسوله ﷺ إلا من كانوا على درجته.
نعم.
الآن أي عمل يجتهد فيه الإنسان يقل أو يستكثر كيف يقبل عند الله؟ لا يقبل إلا بالإخلاص، وقد كشف الله عن قلوبهم التي لا يمكن أن يراها أحد إلا الله جل في علاه وأعلنها للدنيا بأسرها فقال: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا﴾ [الفتح:٢٩] أي: أخلصوا دينهم لله جل في علاه، وهذه أيضًا لفتة على أن الله لا يقبل من عباده إلا المخلِصين المخلَصين، أما رأيت أن الله مدح يوسف وبين أنه أنقذه من براثن الزنا؛ لأنه كان من المخلصين: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:٢٤].
ثم قال: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح:٢٩]، فالذي يقيم الليل الله جل وعلا يلبسه ثوب النور في الصباح، ثم قال جل في علاه: ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح:٢٩].
وهذه الآية احتج بها الإمام مالك ﵀ على أن الشيعة الروافض كفار، فالإمام مالك ﵀ يكفر الروافض بهذه الآية؛ لأنه قال: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ»، فكل من عض الأنامل على الصحابة، وتغيظ على الصحابة فهو يدخل تحت هذه الآية: «لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ» والروافض دائمًا يدعون صباحًا ومساءً: (اللهم العن صنمي قريش)، ويقصدون بذلك أبا بكر وعمر فنعوذ بالله من الخذلان! قال أبو سعيد الخدري ﵁: قال رسول الله ﷺ: (يأتي على الناس زمان يغزوا فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم.
فيفتح عليهم)، وهذه من بركة صحبة النبي ﷺ، وبركة الذين رأوه ﷺ، ولذلك يقول العلماء: لا مقارنة بين عمر بن عبد العزيز وهو الخليفة الراشد الخامس وبين معاوية، فإن يومًا رأى معاوية فيه وجه رسول الله ﷺ أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز وأهل بيته أجمعين، فالصحبة لا تقارن؛ لأن الله جل وعلا لم يصطف لصحبة نبيه إلا الأخيار، قال: (يأتي على الناس زمان يغزوا فئام من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله ﷺ؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم).
وقال عمران بن حصين ﵁: قال رسول الله ﷺ: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؟ ثم قال: إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون).
وهذا هو الزمان الذي تنبأ به النبي ﷺ، وأخبرنا غيبًا عنه بقوله: (ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)، فكل من ظهر فيه السمن فليخش على نفسه من قول النبي ﷺ: (ويظهر فيهم السمن) وهذه ليست على الإطلاق، فقد كان الإمام محمد بن إدريس الشافعي يقول: ما رأيت سمينًا فيه خير قط إلا محمد بن الحسن الشيباني، فالمقصود بقوله: (يظهر فيهم السمن) أي: بأكل الرشوة، وأكل الحرام، فلا يبالون من أي الأموال أكلوا.
1 / 2
فضل الأنصار ﵃
في فضل الأنصار إجمالًا قال أبو هريرة ﵁ وأرضاه: قال رسول الله ﷺ: (لو أن الأنصار سلكوا واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، فقال أبو هريرة: ما ظنكم بأبي وأمي! قوم آووه ونصروه)، وحق لهم ذلك، فالأنصار هم خير أتباع النبي، وهم الذين أسسوا هذه الأمة الإسلامية في مدينتهم، وقد بايعوا رسول الله ﷺ على أن يقاتلوا عنه كما يقاتلوا عن نسائهم وأطفالهم؛ ولذلك قال رسول الله ﷺ: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله).
وفي رواية أخرى عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال: (آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار).
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: (دعا النبي ﷺ الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين فقالوا: لا إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين، قال: إما لا فاصبروا حتى تلقوني).
وفي رواية أخرى قال: (وموعدكم الحوض).
وقد أشار النبي ﷺ إلى أنه ستكون أثرة بعد موته، بأن يفضل الناس أنفسهم ويتركون الأنصار، وهذه لفتة من بعيد على أن أهل الدنيا يخسرون في الآخرة، وأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر.
فهؤلاء الأنصار الذين نصروا رسول الله ﷺ، وأسست الدولة الإسلامية على أرضهم، وفدوا رسول الله ﷺ بأموالهم وأنفسهم، ومنهم من قتل بين يدي رسول الله ﷺ، ومنهم من رمى نفسه بين يدي رسول الله ﷺ فداءً له، ومع ذلك فالمكافأة ضحلة عليهم في هذه الدنيا، بل وسيكون هناك أثرة عليهم، ولا يعرف الناس لهم قدرًا؛ لأن الله جل في علاه سيوفيهم في الآخرة نصيبهم، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا من أهل الآخرة لا من أهل الدنيا.
قال ابن مسعود: لقد شهدت مع المقداد مشهدًا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما طلعت عليه الشمس -يعني: كان موقفًا بديعًا- وذلك أنه أتى النبي ﷺ وهو يذكر المشركين فقال: (يا رسول الله! إنا والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة:٢٤]، ولكن نقاتل من بين يديك، ومن خلفك، وعن يمينك، وعن شمالك، قال: فرأيت النبي ﷺ يشرق وجهه لذلك وسره وأعجبه).
ومن فضل الصحابة الذين باعوا أنفسهم لله جل في علاه، وائتمروا بأمر النبي ﷺ قوله ﷺ: (لا تسبوا أصحابي! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، ولقد كان النبي ﷺ يبين من أصحابه صاحب السبق، وصاحب الفضل، ويرفعه على المتأخر، وإن كانوا كلهم كما بين الله جل وعلا أن كل واحد منهم له الحسنى، فرسول الله ﷺ يمر على خالد بن الوليد وهو يشتد ويحتد على عبد الرحمن بن عوف، وعبد الرحمن بن عوف كان سادس ستة قد أسلموا من السابقين، وخالد متأخر الإسلام عن عبد الرحمن بن عوف، فاشتد غضب رسول الله ﷺ على خالد بن الوليد ثم قال: (لا تسبوا أصحابي) يقولها لـ خالد مع أنه صاحب، ولكن ليبين له قدر عبد الرحمن بن عوف.
1 / 3
الطعن في الصحابة طعن في الإٍسلام
ونجد الآن أن الطعن في قلب الإسلام وكبده لا يأتي إلا عن طريق الطعن في الصحابة، إما ترويج لفكر الشيعة والتنقيص من عمر بن الخطاب أو من أبي بكر ﵄ وأرضاهما، وهما من أعمدة هذا الدين بعد رسول الله ﷺ، والتنقيص من الشريعة نفسها من خلال الطعن في أبي هريرة ﵁؛ لأن المستشرقين يريدون هدم السنة، والسنة بأسرها على لسان أبي هريرة ﵁ وأرضاه، هذا الذي جاء إلى رسول الله ﷺ وهو متأخر في الإسلام، لكنه صدق الله فصدقه الله، قال: (يا رسول الله! ما أحفظ عنك شيئًا ولا أعقل عنك شيئًا)، لكنه كان صادقًا مع ربه، فقال له رسول الله ﷺ: (ابسط ثوبك، ثم وضع يده على صدره ودعا له، قال: والله ما لبثت أن انتهى رسول الله ﷺ من حديثه إلا وعقلته وفهمته كله، وما كتبت بيضاء في سوداء)، فحفظ عن رسول الله ﷺ كل ما قاله، ولذلك جاء المستشرقون يريدون ضرب سنة النبي ﷺ في هذا الصاحب الجليل أكثر الناس رواية عن رسول الله ﷺ.
والحرب التي تدور اليوم على الإسلام لا تدور علانية، ولكن من تحت أحزاب كما يقولون، فيضربون الإسلام في الثوابت، ويجعلونها حربًا على الثوابت، فإذا أرادوا أن يحاربوا الإسلام حاربوه في الجبال الشم الشوامخ، إما في صحابة رسول الله ﷺ لهدم السنة من تحت كما يقولون وإما علنًا.
1 / 4
أهمية الاقتداء بالصحابة
والإنسان إذا أراد أن يرتقي فلا بد أن يكون له قدوة، وهذه القدوة إما أن تكون مازالت حية، وإما أن تكون قد ماتت وبشرت بالجنة، وهؤلاء الصحابة قد مشوا على الأرض وبشرهم الله بالجنة، فعلينا أن نعلم أنفسنا أولًا ثم نعلم أبناءنا ونساءنا أدب الصحابة وخلقهم واتباعهم وجهادهم ونفقتهم حيث باعوا أنفسهم بحق وصدق لله جل في علاه، وائتمروا بأمر النبي ﷺ، فهذا أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه ضرب لنا أروع الأمثلة في التصديق واليقين في الله، واليقين في موعود رسول الله ﷺ عندما جاء القوم إلى رسول الله ﷺ يسألونه في سخرية: أين كنت البارحة؟ فقال: أسري بي إلى بيت المقدس، فقام أبو جهل يضحك يقول: ذهبت إلى بيت المقدس ورجعت هذه الليلة؟! فيقول: نعم، فيذهب أبو جهل ويجتمع مع القوم ويقول: الآن ينفض المجلس ونذهب إلى أبي بكر -لأنهم يعلمون أن أبا بكر يعلم أن الإبل لا تضرب إلى بيت المقدس ليلة واحدة، بل في شهر ذهابًا، وشهر إيابًا- فذهبوا إلى أبي بكر الصديق فقالوا: أرأيت ما قال صاحبك؟! -والصحابة ما اصطفاهم الله إلا على علم عنده ﷾، كشف عن القلوب فعلم الصدق والنقاء فاختارهم لنبيه ﷺ فقال: ماذا يقول؟ فقالوا: يقول: إنه كان البارحة في بيت المقدس وجاء الليلة هنا عندنا! قال: أقال ذلك؟ قالوا: نعم قال ذلك.
قال: والله لقد صدق، ثم بين بنقاء قلبه وصدق لهجته ما يعقله الإنسان، فقال: إني أصدقه فيما هو أكثر من ذلك أصدقه في وحي ينزل عليه من السماء.
وعمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه كان متيقنًا بالله جل في علاه عندما ذهب إلى بيت المقدس، وكانت التوراة مكتوب فيها صفة عمر بن الخطاب، وأنه هو الذي سيفتح بيت المقدس، ولذلك لما استعصى على المسلمين فتح بيت المقدس بعث أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر: أن تعال لعل الله جل وعلا يفتح على يديك، فمنعه كثير من الصحابة منهم علي وعثمان وقالوا: أنت أميرنا فلا تذهب، فقال: والله لأذهبن.
فذهب عمر ﵁ وأرضاه فاستقبل مخاضة، فأخذ نعليه تحت إبطيه -تأبط نعليه- فقال له أبو عبيدة بن الجراح وكان أحب الناس إلى عمر: يا أمير المؤمنين! ما أحب أن القوم يروك على هذه الهيئة تتأبط نعليك وتسير حافيًا أمامهم، فقال: يا أبا عبيدة! والله لو قالها غيرك لأدبته على ما يقول، لقد كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، ولو ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
إن هؤلاء الصحابة هم منارات لنا، وهم القدوة بحق، فنحن نتكلم عن الصحابة ونتدبر أحوالهم حتى نعيش الإيمانيات التي كانوا يعيشونها، فنحن أشباح بلا أرواح، فمن منا جلس وحده عندما ينام فدمعت عينه من خشية الله؟! ومن منا تذكر نعمة من نعائم الله عليه فشكر الله، فلما شكر الله فاضت عيناه؟! ومن منا تذكر أنه لو كان في الفردوس الأعلى فإنه سيصاحب رسول الله فيأخذ بيده ويسير معه على شط النهر فيشرب معه العسل، ثم يذهب زائرًا لربه فيرى وجهه؟ من منا يتدبر هذا؟! فهم كانوا يتدبرون ذلك، ولذلك أنس كان يخشى ما يخشاه أن ينزل درجة عن النبي ﷺ، فلما قال رسول الله: (المرء مع من أحب) قال: والله ما فرح صحابة رسول الله فرحًا أشد من فرحهم بهذا الحديث.
فنحن إنما نتدبر أحوال الصحابة لنعيش إيمانيات الصحابة؛ لأن هذه الأمة لا بد لها من أن ترجع إلى هذه الإيمانيات، ولذلك نقول: الرعيل الأول الذكي النقي قادوا وسادوا في مدة وجيزة من عمر الزمن؛ لأنهم علموا أن الله حق، وتعلموا خشية الله، والإحسان في عبادة الله جل وعلا والرقابة لله، فـ عمر ﵁ نفسه عندما كان يقول لـ عبد الرحمن بن عوف ﵁: الأمر من هاهنا لا من هاهنا، كأنه يقول لنا: اسمعوا واعلموا أنه لو تكالبت عليكم الدنيا بأسرها وأنتم على يقين من أنكم على الحق وأنكم متمسكون بكتاب الله وسنة النبي ﷺ والله لو اجتمع عليكم من بأقطارها فلن يضروكم لأنكم مع الله ومع رسول الله، فالأمر من هاهنا يدبر، يعني: من صاحب العرش، ممن استوى على عرشه ويدبر أمر خلقه، فالأمر من هاهنا لا من هاهنا، فهي عبادة الرقابة، وعبادة الإحسان: إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولقد مر عمر على امرأة تقول لابنتها: يا ابنتي! أخلطي اللبن بالماء، فلا أحد يرانا، فقالت البنت: إن كان أمير المؤمنين لا يرانا فرب أمير المؤمنين يرانا، فاصطفاها عمر زوجة لابنه، فأنجبت من ذريتها عمر بن عبد العزيز الذي أشرقت شمسه على سماء الإسلام، وكان أعدل الناس في زمانه، ما ترك مسلمًا ولا نصرانيًا ولا أحدًا إلا وأعطاه من بيت مال المسلمين، فـ عمر بن عبد العزيز ﵁ وأرضاه ثمرة من ثمرات عبادة الإحسان لله جل في علاه.
نحن ننطلق بإذن الله من فضائل الصحابة لنتدبر كيف آمنوا؟ وكيف استيقنوا في ربهم؟ وكيف استنوا بسنة النبي ﷺ؟ لعلنا نتخذهم قدوة فيعلو إيماننا، فنرتقي إلى ربنا، ويأخذ كل منا بيد أخيه إلى طريق الجنة، فإنه يسير على من يسره الله عليه، وقد قال النبي ﷺ: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فمن جلس في مجالس العلم فهذا هو التيسير له، ومن أنفق في سبيل الله، وكف لسانه عن إخوانه فهذا ميسر له، ومن اغتاب الناس وأكل في لحوم الناس، وأقسم بالله كذبًا، وتجرأ على حدود الله فهذا ميسر له، فليخش كل امرئ على نفسه، ويقول كما قال عمر وهو يطوف بالكعبة: اللهم إن كنت قد كتبتني عندك شقيًا فامحها واكتبني عندك سعيدًا، اللهم اجعل كل المسلمين من السعداء وأدخلنا جميعًا الجنة.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
1 / 5
فضائل الصحابة - فضائل أبي بكر الصديق [١]
اختار الله تعالى لصحبة نبيه ﷺ أطهر الناس قلوبًا، وأشرفهم نفوسًا، وقد بذلوا دونه مهجتهم وأرواحهم، وكان أفضلهم نفسًا، وأرجحهم عقلًا، وأرفعهم منزلة ومكانة، وأقربهم مجلسًا من رسول الله ﷺ أبا بكر الصديق ﵁ وأرضاه.
2 / 1
من مناقب أبي بكر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
ما زلنا مع هذه الشموس التي أشرقت في سماء إسلامنا، مع مصابيح الدجى مع منارات الهدى مع صحابة رسول الله ﷺ، أحسن الناس خلقًا، وأعمقهم إيمانًا، وأبرهم قلوبًا، الذين صحبوا رسول الله ﷺ واقتدوا بهديه، واستنوا بسنته، وعضوا عليها بالنواجذ مع الذين أنزل الله عدالتهم من فوق سبع سماوات مع الذين قال الله فيهم: ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ [الفتح:٢٦]، مع أكبر شمس في سماء إسلامنا مع أعظم رجل بعد رسول الله ﷺ مع من خاطبه الله بصيغة التعظيم والتبجيل هنيئًا لك يا أبا بكر! فإن الله جل في علاه يخاطبك ويتكلم عنك بصيغة التبجيل والتعظيم فجبار السماوات والأرض يقول عن أبي بكر: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ [النور:٢٢] باتفاق المفسرين أن المقصود بأولي الفضل هو أبو بكر ﵁ وأرضاه.
فضائل أبي بكر ﵁ صدرها التاريخ لنا نبراسًا، فهذه هي الفضائل التي يحتذي بها المؤمن التقي النقي الذي يريد أن يسارع إلى ربه جل في علاه فيحتذي حذو ما فعل أبو بكر ﵁ وأرضاه العظيم المعظم من قبل رسول الله ﷺ، لقد وردت الآثار أن النبوة والوحي إن لم تنزل على رسول الله لنزلت على مثل هذا الرجل؛ لأنه كان أشبه الناس برسول الله ﷺ في خلقه سمته عمله قلبه تصديقه يقينه بالله جل في علاه.
قال الله في أبي بكر يبين فضله: ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:٤٠] إن نبي الله ﷺ ما اختار الله له في الهجرة إلا خير صاحب؛ ليأنس به رسول الله، ويدافع عن رسول الله، ولنعم ما اختار الله جل في علاه! وقد ظهر ذلك جليًا عندما سار مع رسول الله وهو يقص علينا كيف سار مع رسول الله، قال: (كنت مع رسول الله أتقدم رسول الله وأتخلف عنه، وآتي يمينًا وآتي يسارًا) لو نظر الناظر في فعل أبي بكر يقول: ماذا يفعل هذا الرجل؟! تارة أمامه، ثم تارة خلفه، ثم عن يمينه، ثم عن شماله، لم هذا؟! وهذا السؤال أجاب عنه أبو بكر ﵁ وأرضاه فقال: كنت أخشى الطلب فأتراجع خلف رسول الله ﷺ -نفسي فدىً لرسول الله ﷺ ثم أخشى العدو الذي يأتي من الأمام فأتقدم رسول الله ﷺ، ثم عن يمينه وعن شماله.
ولما قدر الله أن يختبر إيمان هذا الرجل العظيم الجليل دخل مع رسول الله ﷺ في الغار قال تعالى: «ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ» لما دخل مع رسول الله علمنا أدبًا جمًا لابد أن يتعامل به الإنسان مع العظماء والشرفاء، مع الأكارم والأفاضل؛ فإن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول الله بين لنا كيف يفعل هذا الفاضل مع من هو أفضل منه، تقدم رسول الله -وهذا التقدم ليس بسوء أدب بل هو قمة الأدب خشية على صحة ونفس رسول الله ﷺ إلى الغار، دخل يستكشف أي خطر ممكن أن يجهز على رسول الله ﷺ، فشمس الإسلام لن تشرق إلا بيد رسول الله ﷺ، فدخل أبو بكر ينظر في فتحات هذا الغار فيسد كل فتحة من فتحات الغار، وتبقى فتحة واحدة، فلما دخل رسول الله ﷺ سد أبو بكر الفتحة الأخيرة برجله، وكان رسول الله -وهذه من السنن المهجورة، أن الفاضل إذا جلس مع المفضول نام على حجره، فهذا فيه دلالة على التواد والوفاق- قد نام على حجر أبي بكر ﵁ وأرضاه، وأبو بكر يسد الفتحة برجله، فجاءت عقرب فلدغت أبا بكر ﵁ وأرضاه فما تحرك أبدًا حتى لا يوقظ رسول الله ﷺ، والله الذي لا إله إلا هو من يتصفح صفحات التاريخ يعلم لم اختار الله هؤلاء القوم ليسودوا الناس، وليتربعوا على عرش الأمم في مدة وجيزة من عمر الزمن! انظروا الرجل تلدغه عقرب بسم ناقع في جسده ولا يتحرك؛ لمكان رسول الله ﷺ من حجره! لكن يقدر الله ليأتي الشفاء لـ أبي بكر ﵁ وأرضاه؛ لأن الله يأبى إلا أن يستخلف أبا بكر، فبكى أبو بكر من شدة التألم؛ فنزلت دموع أبي بكر ﵁ وأرضاه على خد رسول الله ﷺ فأيقظته، فلما علم رسول الله ﷺ الخبر وضع يده على رجل أبي بكر ثم رقاه؛ فشفاه الله جل في علاه.
وجاء القوم يطلبون رسول الله فقام أحدهم يبول، فقال أبو بكر: يا رسول الله! أحدهم يبول -والله لا بد لهذه الأمة أن ترجع إلى ربها جل في علاه- نعم يبول أمامه عيانًا ولا يراه؛ لأن قدرة الله جل وعلا تخفي رسول الله ﷺ عن أبصارهم، ومن استيقن في ربه أتاه ما يتمناه من ربه جل في علاه، وقال: (يا رسول الله! إنهم فوقنا لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا).
انظروا في يقين الرسول ﷺ، عبر ونوادر إيمانية تستنبط من المواقف، مواقف إيمانية عزيزة عظيمة جليلة، فرسول الله يربي أبا بكر حتى يربينا على اليقين بالله جل في علاه، فقال: (يا أبا بكر!) بقلب ثابت! بقلب مستيقن في ربه جل في علاه! (يا أبا بكر! ما بالك باثنين الله ثالثهما؟).
يراقب ربه ويعلم أن الله جل وعلا ناصره رغم أنف الكافرين، ويعلم أن الله جل وعلا منقذه من الهلكة حتمًا، (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟).
الله جل في علاه يعمي الأبصار وهي تنظر، ويصم القلوب والآذان وهي تسمع سبحانه جل في علاه، أما رأيتم ربكم عندما استيقن به موسى كما استيقن به محمد ﷺ؟! العدو خلفهم فرعون ومن معه، والبحر أمامهم ولا أحد منقذ لهذه الفرقة، يقول قومه: يا موسى! أدركنا القوم! ماذا يقول؟! يقول موسى المستيقن في ربه: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:٦٢] فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، وكما استيقن رسول الله ﷺ في ربه فجاء الفرج، قال: (ما بالك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا) معية تسديد! معية توفيق! معية لا تكون إلا للمؤمنين الخالصين المخلصين المتقين، فقال أبو بكر: (إن القوم سيروننا.
فقال: لا تحزن إن الله معنا).
وهذه كانت فضيلة أيما فضيلة لـ أبي بكر ﵁ وأرضاه، حيث إن رسول الله يأمر الصحابة بأسرهم أن يهاجروا، وأبو بكر يأتي فيقول: (أهاجر يا رسول الله؟! ورسول الله يقول: انتظر لعل الله يجعل لك صحبة) وهو يختبئ أبا بكر لنفسه ﷺ.
جاء في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك ﵁ وأرضاه عن أبي بكر قال: (قلت للنبي ﷺ وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا؛ فقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما) ولا نقول هذا كما يقول أهل التصوف الذين يتنطعون ويقولون: الولاية تقدم على النبوة؛ لأنهم يقولون: الخضر ولي، وموسى نبي واتبع الخضر، وهنا أيضًا يقولون: أبو بكر قد فزع وجزع أن الناس قد يروه، فقال: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقالوا: ثبته رسول الله، انظروا الولاية والنبوة! ثم جاء رسول الله في غزوة بدر فقام يبتهل ويقول: (اللهم انصر هذه العصابة، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم، ثم قال: اللهم نصرك الذي وعدتني! اللهم أنجز لي ما وعدتني! فقام أبو بكر وقال: يا رسول الله! والله إن الله سينجز لك ما وعدك) فقالوا: هذه بتلك، ثبت أبو بكر رسول الله! عموا وصموا، وعليهم من الله ما يستحقون! لا يعلمون قدر رسول الله ﷺ يقولون: هذه بتلك! ويقولون: قد ثبت أبو بكر رسول الله في غزوة بدر وثبته رسول الله في الغار، بل في الثنتين؛ فإن رسول الله له المنة العظمى على أبي بكر ﵁ وأرضاه، ولما جزع أبو بكر فإن رسول الله ﷺ قد ثبته بثبات الله له سبحانه جل في علاه.
2 / 2
الأحاديث الواردة في فضل أبي بكر ﵁
عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: (خطب رسول الله ﷺ وقال: إن الله ﵎ خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله، قال: فبكى أبو بكر) بأبي هو وأمي رسول الله ﷺ! وبأبي هو وأمي أبو بكر ﵁ وأرضاه أفقه الصحابة على الإطلاق، وأقرأ الصحابة على الإطلاق، وهذا الذي جعل رسول الله ﷺ في مماته ينظر فيرى عمر الفاروق يتقدم الناس ويصلي؛ فاشتد غضب رسول الله ﷺ وتمعر وجهه وقال: (يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر) لا بد أن يتقدم أبو بكر؛ لأنه الأحق، (يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر، مروا أبا بكر أن يصلي بالناس).
انظروا إلى فقه هذا الرجل الجليل العظيم يبكى! قال أبو سعيد: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله ﷺ عن عبد خير! فكان رسول الله ﷺ هو المخير، كلهم قالوا: رجل خيره الله بين الدنيا وبين الآخرة فاختار الآخرة، هذا ليس فيه شيء، ما الذي يبكيك يا أبا بكر؟! لكن فقه أبي بكر ﵁ وأرضاه ونظره الدقيق علم أن التخيير لا يكون إلا للأنبياء، كما قال النبي ﷺ: (ما قبض نبي إلا وخير) كل نبي يأتيه ملك الموت يقول: تختار الدنيا أم تختار لقاء الله؟ فيقول: اللهم الرفيق الأعلى! فلما بين النبي ﷺ أن هناك عبدًا خير علم أبو بكر أنه لا يخير إلا النبي؛ فعلم أن رسول الله قد خير وأن الأجل قد دنا وقرب.
قال أبو سعيد ﵁: (وكان أبو بكر أعلمنا).
وقال رسول الله ﷺ: (إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن إخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر) ﵁ وأرضاه.
قول النبي ﷺ: (ولو كنت متخذًا خليلًا غير ربي) فيه دلالة على أن الخلة لرسول الله ﷺ كما أن الخلة لإبراهيم، وهذا فيه رد على الصوفية الذين يقولون: الخلة لإبراهيم والمحبة لرسول الله ﷺ، ويحتجون بحديث عن ابن عباس وهو حديث ضعيف: (أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والرؤية لمحمد؟!).
يعني: محمد رأى ربه في الدنيا وهذا ليس بصحيح فالحديث ضعيف.
فهنا قال النبي ﷺ: (خليلًا غير ربي) أي: رسول الله خليل الرحمن جل في علاه.
وقال عبد الله بن عمر: (كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله ﷺ فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان).
وعن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قام على المنبر خطيبًا في الناس فقال: أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ثم الله أعلم بمن بعد ذلك.
وقال عمرو بن العاص ﵁: إن رسول الله ﷺ بعثني على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة.
قلت: من الرجال؟ قال: أبوها.
قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب فعد رجالًا).
عمرو بن العاص أسلم قبل هذه الغزوة بثلاثة أشهر، وبعد ثلاثة أشهر من إسلامه أمره النبي ﷺ على غزوة ذات السلاسل، فلما كان أميرًا طلب المدد من رسول الله ﷺ، فبعث إليه المدد وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح، وكان في المدد عمر وأبو بكر، فلما قدم أبو عبيدة بن الجراح على عمرو بن العاص قال له: أنت جئت علي فأنا الأمير، فـ أبو عبيدة بن الجراح قال: إن رسول الله أمرني ألا أنازع الأمر أهله أنت الأمير؛ فلما وجد عمرو بن العاص نفسه أميرًا على أبي عبيدة وعمر وأبي بكر قال: أنا أحب الناس إلى رسول الله، أبو بكر المتقدم في الإسلام يكون تحت يدي؟! ففيه دلالة على أن الإمارة لا تدل على الفضل، بل يمكن أن يكون المفضول تحت يد الفاضل؛ فذهب عمرو بن العاص فقال: (يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة - من النساء -.
فقال: لست عن هذا أسأل بل من الرجال، فقال: أبو بكر) فهذه دلالة على أن أبا بكر ﵁ وأرضاه له الحظوة عند رسول الله ﷺ.
2 / 3
سبق أبي بكر في كل خير
أختم بأمر كان الصحابة يعتادونه دائمًا وليتنا نفعل به، فقد صدقوا قول الله تعالى وعملوا به بعدما سمعوه قال تعالى: ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين:٢٦]، فكان صحابة رسول الله ﷺ ما يتركون شاردة ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة تقربهم من الله وتسرع بهم إلى ربهم إلا وسارعوا إليها، فهذه همة عالية تعلو قمم الجبال، عانقوا السماء بهذه الهمم! أبو بكر الصديق ﵁ وأرضاه كان يتنافس مع الصحابة في المسارعة والمسابقة إلى الله، وكان عمر ما ينظر إلا لمن هو أعلى منه عملًا بحديث النبي ﷺ حيث نصح أبا موسى الأشعري عندما قال: (أما في الدين فانظر إلى من فوقك، وأما في الدنيا فانظر إلى من تحتك)؛ لأنك إذا نظرت إلى من تحتك في الدنيا حمدت الله على هذه النعمة التي أنت فيها، لكن لو نظرت إلى من هو فوقك في الدنيا ازدريت نعمة الله عليك، وإذا نظرت لأهل الدين من فوقك علت همتك، لم يكون هذا مع رسول الله ولم يتخلف في الدرجة التي تكون أسفلها؟ لم لا أكون مثله؟! لم لا أسارع كما يسارع؟! هذا الذي جعل عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه يسابق أبا بكر، فكان دائمًا لا يسابق أبا بكر إلا ويسبقه أبو بكر، ففي ذات مرة أمر رسول الله ﷺ الصحابة بالنفقة؛ فجاء كل واحد بماله الذي تصدق به، وجاء عمر بشطر ماله ليسبق الجميع فقال: (يا رسول الله! هذا شطر مالي.
فقال له النبي ﷺ: وما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم مثله) فابتسم رسول الله وأثنى عليه ثناءً حسنًا، وقال عمر: اليوم أسبق أبا بكر ما من أحد قدم مثلما قدم، فجاء الفقيه الأريب اللبيب، جاء الصاحب الكريم، جاء الجليل، جاء الذي خاطبه الله جل وعلا معظمًا مجللًا عندما قال له: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ﴾ [النور:٢٢] (جاء أبو بكر بماله كله فوضعه بين يدي رسول الله ﷺ، فقال: يا أبا بكر! ما تركت لأهلك؟) انظروا إلى اليقين! انظروا إلى الفقه! انظروا إلى السبق! فقال: (تركت لهم الله ورسوله).
ولذلك استنبط العلماء فقالوا: من بلغ إيمانه إيمان أبي بكر فليفعل ما فعل أبو بكر.
وإن شاء الله في الكلمات القادمة نتكلم عن أبي بكر في فضائله، وفي مواقفه الإيمانية، حتى نأتسي بهذا الرجل العظيم الذكي النقي ونحذو حذوه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
2 / 4
فضائل الصحابة - فضائل أبي بكر الصديق [٢]
أبو بكر الصديق ﵁ أفضل الصحابة على الإطلاق، فقد زهد في الدنيا وتركها في سبيل متابعته لهذا الدين ودفاعه عن رسول الله ﷺ، صدق الرسول حين كذبه الناس، وواساه حين تركه الناس، بدايته في الإسلام رفيقًا لرسول الله، ونهاية حياته في الدنيا أن استخلف على المسلمين، فحفظ الله به الدين، وأقام به الملة، فقد حارب المرتدين ومانعي الزكاة، وأرسل الجيوش لفتح فارس والروم.
3 / 1
من فضائل أبي بكر الصديق ﵁
3 / 2
علم أبي بكر وحفظه
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
ما زلنا مع خير هذه الأمة بعد نبيها ﷺ، مع الصديق الذي خاطبه الله جل في علاه بالتبجيل والتعظيم والإجلال وقال: ﴿وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ﴾ [النور:٢٢] تعظيمًا وتبجيلًا وتوقيرًا للصديق ﵁ وأرضاه.
إن فضائله ﵁ كثيرة، فهو أعلم الصحابة على الإطلاق، وأفقه الصحابة على الإطلاق، بل وأحفظ الصحابة على الإطلاق، ودليل ذلك من السنة أن النبي ﷺ في مرض موته دعاه بلال ليخرج فيصلي بالناس، فلم يستطع إلى ذلك سبيلًا، فذهب بلال يدعو أبا بكر فأحال أبو بكر بلالًا على عمر، فكلم بلال عمر بن الخطاب، فذهب عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه فصلى بالناس، فقال النبي ﷺ: (يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر) أي: يأبى الله ويأبى المؤمنون تقديم أحد على أبي بكر.
ورسول الله ﷺ هو الذي قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، فهذه فيها دلالة على أن أقرأ الصحابة وأحفظهم هو أبو بكر ﵁ وأرضاه، فقد كان أعلم الصحابة، وفاق في العلم على كثير من الصحابة.
ولما توفي رسول الله ﷺ انشغل الناس: هل يغسل رسول الله ﷺ في ثيابه أو لا؟ وهل يدفن في بيته أو يدفن في مقابر المسلمين؟ ولم يوجد هذا العلم عند الصحابة، لكنه قد وجد عند أبي بكر ﵁ وأرضاه.
3 / 3
زهد أبي بكر وجوده
إن من فضائل أبي بكر ما علم عنه من زهد وجود ﵁ وأرضاه؛ فهو الذي أنفق ماله كله على رسول الله ﷺ، وعلى الدعوة إلى الله جل في علاه.
وكان من أزهد الناس وأتقى الناس، وقد حصل أن عبدًا له كان يعمل في الخراج، والعبد إذا كان في يد السيد فكل عمل يستجلب منه مالًا فهذا المال يكون لسيده، فكان أبو بكر يأخذ عامله بيده ويقول له: من أين اكتسبت هذا المال؟ وفي ذات مرة نسي أبو بكر أن يسأل هذا العبد: من أين أتيت بهذا المال؟ فقال العبد: بعدما أخذ أبو بكر المال وأكل منه: لم لم تسألني من أين اكتسبت هذا المال؟ فقال: من أين اكتسبته؟ فقال العبد: هذه كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية، أي: ادعى العلم بالغيب زورًا وبهتانًا، ولأجله أخذ المال، فأكل أبو بكر من ذلك المال، فانظروا إلى أبي بكر ﵁ وأرضاه، وإلى ورعه وتقواه لله جل في علاه هنا، مع أن القاعدة تقول: إن الإثم مرفوع عن المكره وعن المخطئ وعن الناسي الذي لا يعلم، وقد قال الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة:٢٨٦]، وقال النبي ﷺ: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وأبو بكر لم يكن يعلم أن هذا المال من حرام وظنه حلالًا، لكن ورعًا وتقوى من أبي بكر ﵁ وأرضاه أدخل إصبعه في فيه حتى استقاء كل ما في بطنه؛ خشية منه أن يدخل درهمًا حرامًا في جوفه ﵁ وأرضاه! وصدق عبد الرحمن بن عوف إذ يقول: لو وضع إيمان الأمة -ليس فيهم رسول الله ﷺ في كفة، ووضع إيمان أبي بكر في كفة لرجحت كفة أبي بكر ﵁ وأرضاه.
3 / 4
غضب الرسول لأبي بكر
قال أبو الدرداء: بينما كنت جالسًا عند النبي ﷺ إذ أقبل أبو بكر الصديق آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، وهذه الجملة يستدل بها الفقهاء، وكل حديث تجد فيه فوائد مستنبطة تنفع كل مؤمن فقهًا وعقيدة وتوحيدًا، وليس هذا خروجًا عن الموضوع ولكن الشيء بالشيء يذكر، وهذه الطريقة كان يفعلها شيخ الإسلام ابن تيمية، والجهلاء كانوا يعترضون على شيخ الإسلام ويقولون: نكلمه عن المشرق، فيتكلم عن الشمال والجنوب والغرب، قال ابن القيم: وهذا من جهلهم وسعة علمه؛ لأنه ما يرى فائدة من الفوائد في أي كلمة من كلام النبي إلا وبينها للناس حتى يستفيدوا ويعلموا أن رسول الله أوتي جوامع الكلم.
ومن هنا استنبط الفقهاء أن الركبة لا تدخل في العورة، وكثير من الناس يقولون: العورة من السرة إلى الركبة، وهذا يلزم منه أن الركبة من العورة، وأنا أستدل بهذا الحديث بعدم كونها من العورة، ووجه الدلالة إقرار النبي ﷺ لفعل أبي بكر، إذ لو كانت الركبة عورة فلن يسع النبي أن يسكت ولقال لـ أبي بكر: الركبة عورة غط ركبتيك، فإن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والنبي ﷺ قد أمر بالتبليغ.
فقال أبو الدرداء: (حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي ﷺ: أما صاحبكم فقد غامر! فسلم، وقال: إني كان بيني وبين عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه مشاحنة ثم ندمت).
يعني: أن المشاحنة حصلت، واشتد أبو بكر على عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه، قال: فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إلى الرسول فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر؛ لأن هذه تغمر في بحر حسنات أبي بكر ﵁ وأرضاه، كيف لا وقد قال الفاروق عندما نظر إليه وهو يموت، ويوصي بثوبه الجديد لبيت مال المسلمين ويقول: كفنوني في ثوبي البالي فبكى عمر وقال: أتعبت من بعدك يا أبا بكر: ليتني شعرة في صدر أبي بكر ﵁ وأرضاه.
فقال الرسول: (يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال: أثم أبو بكر؟ أي: هنا أبو بكر؟ قالوا: لا، فأتى النبي ﷺ فجعل وجه النبي يتمعر على عمر).
والنبي ﷺ كان يعذر الناس، ولكنه مع ذلك لا يقدم أحدًا على أبي بكر؛ لأنه من الظلم البين أن تضع أحدًا في موضع ليس أهلًا له، ومن الظلم كذلك ألا تنزل الناس منازلهم.
قال: (فتمعر وجه النبي ﷺ حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه وقال: يا رسول الله! والله إني كنت أظلم مرتي)، فأراد النبي ﷺ أن يبين منزلة أبي بكر ومنزلة عمر، فقال: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذب) والذي قال ذلك قريش ومن فيهم، والفاروق أيضًا كان معهم وأبو بكر لم يكن كذلك، فله السبق هنا (وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ (مرتين) فما أوذي بعد هذا).
وجاء أنه حدث بين أبي بكر وبين رجل من الأنصار مشكلة، فاشتد أبو بكر ﵁ وأرضاه على الأنصاري، ثم ندم فقال للرجل: سامحني على ما فعلت، فقال الرجل لـ أبي بكر: يغفر الله لك، وقال: اقتص مني، قال: لا أقتص منك يغفر الله لك.
قال: اقتص مني وإلا استعديت عليك رسول الله، فاندهش الأنصار وقالوا: سبحان الله! يسبك ويذهب ليستعدي عليك رسول الله، والله لنذهبن معك إلى رسول الله فنقص عليه القصة، ولكن من فقه هذا الأنصاري أنه كان يعلم أن رسول الله قد أنزل أبا بكر مكانتة عظيمة، وقال: اسكتوا لا يسمعكم أبو بكر فيغضب فيذهب إلى رسول الله فيغضب رسول الله لغضب صاحبه، فيهلك صاحبكم، ثم ذهب الرجل إلى رسول الله فقال: (حدث كيت وكيت وكيت، وقلت له: يغفر الله لك.
قال: نعم، قل يغفر الله لك يا أبا بكر!).
وقال عبد الله بن المبارك: إنما سمي أبو بكر صديقًا؛ لأنه يكذب قط، ووالله ما قالوا له حادثة نقلوها عن رسول الله إلا وقال: أو قال محمد ﷺ ذلك؟ فإن قالوا: نعم.
قال: فقد صدق.
3 / 5
علو همة أبي بكر في نيل فضل الله تعالى
قال أبو هريرة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، فقال أبو بكر: ما على الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال: نعم، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر).
ونستفيد من هذا الحديث أن هناك بابًا اسمه الريان، وبابًا للصدقة، وبابًا للجهاد، وبابًا للصلاة، فجاء أبو بكر يطلب أن يدخلها كلها، وهذا فيه الحث على الأعمال الصالحة.
ويستفاد من هذا الحديث أيضًا القوة العالية وهمة الصحابة، فأين نحن منهم الآن، فلعل بعضنا يقول: أريد أن أشم من رائحة الجنة ويكفي ذلك، أو يقول: أريد من الله أن يزحزني من النار فقط، لكن الصحابة الأكارم الأماجد الأكابر كانوا يعلمون أن الله يحب معالي الأمور، ويحب علو الهمة، فكانت الهمم عندهم كالجبال، فسيدنا أبو بكر لما رأى أن الأبواب كثيرة: الصدقة والجهاد والصلاة والصيام تفتح، لم يقل: يفتح له باب فقط، بل كل باب: الصيام والصلاة والجهاد والنفقة وهذه الهمم قد اندثرت في عصرنا هذا.
قد يشكل على البعض أن النبي ﷺ قال: (أرجو أن تكون منهم) ولم يقل: أنت منهم، مع أنه قال لـ عكاشة بن محصن عندما قال له: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، قال: أنت منهم) وعكاشة لا يقرب من مكانة أبي بكر، وقوله لـ أبي بكر هنا: (أرجو أن تكون منهم) يعني: أنه يدعو له بذلك، وليس فيه الجزم كما في عكاشة.
والإجابة على الإشكال أن يقال: إن هذا استنهاض للغير من الأدنى إلى الأعلى حتى يسارعوا في فعل ما قرره النبي ﷺ لـ أبي بكر، فإن النبي ﷺ قد أوتي جوامع الكلم ﷺ.
3 / 6
ترتيب أبي بكر في الفضل عند الصحابة
محمد بن الحنفية هو أحد التابعين، وهو ابن سيدنا علي ﵁ وأرضاه من أمته التي كان يطؤها من غير نكاح، قال محمد بن الحنفية: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله ﷺ؟ قال: أبو بكر.
قلت: ثم من؟ قال: عمر.
وخشيت أن يقول: عثمان، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وقد دب الخلاف بين فقهاء التابعين وأهل السنة والجماعة هل الأفضل عثمان أم علي؟ فالأحناف والثوري كانوا يقدمون عليًا على عثمان وكذلك الإمام الشوكاني علامة اليمن، وهو والصنعاني كانا زيدية، وكانا يقدمان عليًا على عثمان، والصحيح الراجح هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية: وأجمعت كلمة الأمة بعد هذا الخلاف على أن الترتيب في الأفضلية هو ترتيب الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ﵃ أجمعين.
وحدث أنس: (أن النبي ﷺ صعد أحدًا وأبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم، فقال: اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ويقصد بالصديق أبا بكر ﵁ وأرضاه، فمكانة الصديقية مكانة رفيعة نالها هو، والنبي ﷺ قد بين أن الشهيد في قبره لا يسأل، مع أنه قد جاءت نصوص عامة تدل على أنه ما من أحد إلا سيسأل، فقد قال النبي ﷺ: (تفتنون في قبوركم قريبًا من فتنة الدجال)، ولكن جاء التخصيص لهذا العموم للشهيد بأنه لا يسأل، ولذلك سأل الصحابة النبي ﷺ: (لم لا يسأل؟ قال: كفى ببارقة السيوف فتنة).
ثم إن العلماء اختلفوا، هل الصديق ممن يسأل أو لا؟ فقال العلماء: إن قلنا بقياس الأولى والقياس الجلي فسنقول: لا يسأل؛ لأن السؤال في القبر مفاده اختبار لصدق العبد، فالشهيد الذي باع نفسه صادقًا لله قد أظهر صدقه في الدنيا، والصديق أقوى صدقًا من الشهيد، فقالوا: إذًا: الصديق لا يسأل في قبره، لكنا لا نأخذ بهذا القول، فالمسألة توقيفية، وإن كنا نقول: إن الصديق شهيد بل فوق الشهيد بمرحلتين ومرتبتين، لكنه يسأل في قبره، والله أعلم.
3 / 7
تضحيات أبي بكر وبذله في سبيل الله
قال عروة بن الزبير: سألت عبد الله بن عمر: ما أشد ما صنع المشركون برسول الله ﷺ؟ قال: رأيت عقبة بن أبي معيط قد جاء والنبي ﷺ يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقًاَ شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه وقال: أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! فوقف وقفة لم يقفها أحد مثله، كما وقف مؤمن آل فرعون أمام فرعون وقومه.
3 / 8
استخلاف أبي بكر لعمر
قال الحسن البصري: لما حضرت أبا بكر الوفاة قال: انظروا كم أنفقت من مال الله ﷿؟ فوجدوه قد أنفق في سنتين ونصف ثمانمائة ألف درهم.
قال: اقضوه عني، فقضوه عنه، ثم قال: يا معشر المسلمين، إنه قد حضر من قضاء الله ﷿ ما ترون، ولا بد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم، فإن شئتم اجتمعتم وائتمرتم، وإن شئتم اجتهد لكم رأيي.
لأنه يعلم أنه سيسأل عند ربه من استخلف على المسلمين؟ وذلك إن اختيار من يكون أهلًا لإحقاق الحق من الشرع بمكان، وهي مسئولية لابد أن يعد الجواب عنها أمام الله جل في علاه.
والإنسان يظهر عندما تأتي الحقائق، والناس يعرفون في المواقف، والنبي ﷺ قال: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا) وأبو بكر وضع في مكانة عظيمة، وقد علم أنه سيقبل على ربه، وأنه سيسأل من ولى على المسلمين؟ ثم قال: وإن شئتم اجتهدت لكم رأيي، فو الله الذي لا إله إلا هو لا آلوكم -يعني: لا أقصر في النفع والنصح لكم- ونفسي خيرًا، فبكوا وقالوا: أنت خيرنا وأعلمنا -وحق لهم أن يقولوا ذلك- فاختر لنا، فقال: إني قد اخترت لكم عمر ﵁ وأرضاه، فلما قال ذلك -كما في بعض الروايات التي ذكرها أهل السير-: ضج الناس وقالوا: يا أبا بكر ماذا ستفعل عند ربك عندما تضع علينا هذا الشديد؟! يعني: كانوا يخافون من شدة عمر.
3 / 9
شدة عمر في الحق
إن أبا بكر عمل ذلك؛ لأنه يعلم أن عمر رجل مبشر بالجنة، وذلك أن النبي ﷺ جعل على الباب أبا هريرة يومًا فقال له الرسول ﷺ: (من لقيت فبشره أنه من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة) فجاء عمر ﵁ وأرضاه ففرح أبو هريرة وقال: أدخل على أخي السرور، فقال ذلك لـ عمر، فكانت المكافأة عظيمة فضربه عمر فخر على استه، فذهب مسرعًا إلى رسول الله يرتجف، قال له رسول الله: (ما بك؟ قال: قلت لـ عمر ما قلت فضربني، فدخل عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، لا تقل ذلك للناس فيتكلوا) فأخذ بقول عمر ﵁ وأرضاه، فكان شديدًا في الحق، ولذلك كان علي بن أبي طالب أسد السنة الذي حافظ عن هذه السنة عندما قتل عمرو بن ود، كان أشد قريش قتالًا، وذلك أنه (وقف في غزوة الخندق ثم نزل عن فرسه، ورسول الله خلف الخندق، فقال عمرو بن ود: يا أيها الناس! يا هؤلاء! تزعمون أن عند ربكم جنة؟ فنظروا إليه فقال: أما يريد أحد منكم أن ينظر إلى هذه الجنة ويذهب إليها؟ فما برز له أحد، فقال: أما تشهدون بما أخبركم به الله ورسوله أن لكم جنة؟ أما منكم أحد يريد أن يبارز؟ فما خرج له أحد.
فقام علي بن أبي طالب فأخذ النبي ﷺ بيده وقال له: اجلس.
فقال عمرو بن ود: أين أنتم؟ أما تريدون الجنة؟ ألا أحد يبارز؟ فقام علي مرة ثانية، فقال النبي ﷺ: اجلس، فقام الثالثة فقال: يا رسول الله، إن كان هو عمرو بن ود فأنا علي بن أبي طالب، فخرج إليه ثم نظر إليه فقال: من أنت؟ قال: علي بن أبي طالب.
قال: أخ كريم ابن أخ كريم، لكن يا بني إن أباك كان صاحبًا لي، وإني أخشى أن أقتل ابن أخي.
فقال علي: وإني والله أشتهي أن أقتلك، فنزل الرجل من جواده ونزل إليه، فلما نزل إليه قتله علي بن أبي طالب حيلة، وذلك أن عليًا أول ما نظر إليه قال: ما جئت لأقاتل اثنين، فنظر عمرو بن ود خلفه، فأطاح به علي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه).
ويقال: إن الغبار جاء فغطى الاثنين فقتل علي عمرو بن ود وهذه القصة تراجع أسانيدها، فإن العلماء قد يتساهلون في الأسانيد في كتب التراجم، وذكروا أن النبي ﷺ قبض على قلبه فقال: (اللهم ثبت لي عليًا، اللهم إنك قبضت حمزة فأبق لي عليًا).
وهذه أيضًا يراجع إسنادها.
وعلي بن أبي طالب ﵁ وأرضاه مع شجاعته يقص علينا فعله مع عمر: قال: كنا نسير وعمر أمامنا وكلنا خلفه، فإذا وقف ونظر خلفه سقطت قلوبنا في أرجلنا! وعندما ضج الناس عند استخلاف أبي بكر لـ عمر قالوا: يا أبا بكر، تستخلف علينا وتؤمر علينا هذا الشديد؟ قال: أستخلف عليكم رجلًا إن سألني ربي عنه قلت: هو أعلمهم وأفقههم وأتقاهم وأورعهم.
فـ أبو بكر يعلم هذه المميزات لـ عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه، وكانت خير خاتمة لـ أبي بكر الصديق ﵁ وأرضاه أنه ختم حياته باستخلافه لـ عمر ﵁ وأرضاه.
قال ابن مسعود: أفرس الناس أي: أشد الناس تفرسًا ثلاثة: عزيز مصر، وامرأة فرعون، وأبو بكر الصديق، قالوا: لم يا ابن مسعود؟ قال: سأجيبكم، إن امرأة فرعون تفرست في موسى وقالت: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ﴾ [القصص:٩] فنجاها الله بحبها لموسى طفلًا رضيعًا، وتفرس عزيز مصر فنظر ليوسف ﵇ فقال عنه: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا﴾ [يوسف:٢١] وقد كان كذلك وأصبح يوسف ﵇ عزيز مصر، وأبو بكر الصديق تفرس في عمر، فأصبح عمر سيدًا على الدنيا بأسرها، وفتح الله على يديه الأمصار، وفتح ربوع الدنيا مشارقها ومغاربها كان على يد عمر، وكل ذلك من حسنات أبي بكر جمعنا الله مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى رأسهم رسول الله ﷺ في الفردوس الأعلى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
3 / 10
فضائل الصحابة - فضائل عمر بن الخطاب [١]
عمر بن الخطاب ﵁ من أبرز الرجال الذين قام الدين على أكتافهم وجهودهم، آتاه الله قوة في الدين والعلم، وجرأة في الحق، وصرامة لا مثيل لها على الباطل، فاستحق بذلك أن يكون الوزير الثاني للرسول الكريم، والخليفة الذي عقمت النساء أن يلدن مثله.
4 / 1