Victory for the Righteous Ancestors
الانتصار للسلف الأخيار
Penerbit
الرواد للإعلام والنشر
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤٢٨ هـ - ٢٠٠٧ م
Lokasi Penerbit
المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع - مصر
Genre-genre
الانتصار
للسلف الأخيار
نقد لكتاب «أسماء الله الحسنى»
للدكتور: محمود عبدالرازق الرضواني
بقلم/ محمد محب الدين أبو زيد
الرواد للإعلام والنشر
المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع
1 / 1
الانتصار
للسلف الأخيار
نقد لكتاب «أسماء الله الحسنى»
للدكتور: محمود عبدالرازق الرضواني
بقلم/
محمد محب الدين أبو زيد
المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
رقم الإيداع: ١٩٢٠٩/ ٢٠٠٧
التاريخ: ١٤٢٨ هـ ٢٠٠٧ م
1 / 4
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن كتاب "أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة" لفضيلة الدكتور/ محمود عبد الرازق الرضواني. من أفضل الكتب التي وقفت عليها مما أُلف في موضوعه ولقد استفدت منه كثيرًا وكنت - ولا أزال - أحض من أعرفه من طلبة العلم على اقتنائه والاستفادة منه. وكنت ألاحظ فيه - وكذلك غيري من طلبة العلم - بعض الأخطاء ولكني كنت أتغاضى عنها في بداية الأمر لأنه ما من كتاب إلا وبه أخطاء، وأبى الله أن يصح إلا كتابه.
ولما ازدادت مطالعتي للكتاب ازدادت بالتالي كمية هذه الأخطاء التي لاحظتها، فأشار عليّ بعض إخواني أن أكتب هذه الملاحظات وأرسلها
1 / 5
إلى فضيلة الدكتور/ محمود عبد الرازق تعاونًا معه على الخير، وتنزيهًا لهذا الكتاب القيم مما وقع فيه من أخطاء، وبالفعل قمت بذلك واتصلت به هاتفيًّا وأخبرته بأنني سوف أرسل له مع بعض إخواني وريقات بها بعض ملاحظات على الكتاب فأصر أن يعرف مجملًا لهذه الملاحظات فأخبرته بها فأصر على موقفه ولم يبد أي تجاوب معي وقال مقالة عظيمة ما كنت أتوقع أبدًا أن تصدر منه حيث قال لي: «إنني اطلعت على خمس وثلاثين موسوعة إلكترونية لم يطلع عليها السلف الصالح»! ! (١).
فلما رأيت الأمر بهذه الصورة استخرت الله وعزمت على نشر هذه النقد في مقدمة أحد الكتب التي أقوم بتحقيقها في مجال "العقيدة" ولكن أشار علي أحد إخواني الفضلاء أن أفرده بالنشر حتى تعم الفائدة فاستجبت لطلبه مستعينًا بالله على تحقيق ذلك.
ولعل من الضرورة أن أشير إلى أهم تلك الأخطاء ليعلم القارئ أهمية هذا النقد. فأقول: يمكن حصر أهم الأخطاء في النقاط التالية:
_________
(١) وقد قال الدكتور في كتابه (ص: ٧٢٣) في معرض كلامه عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم: «كما أنهما لم يتتبعا الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة حصرًا؛ لصعوبة ذلك بغير وجود الحاسوب المتيسر في عصرنا»! !
وقال في أحد البرامج على إحدى القنوات الفضائية في معرض تعليله لعدم قيام أئمة المسلمين بإحصاء الأسماء الحسنى: «ابن حجر لم يكن عنده كمبيوتر حتى يبحث في خمسين ألف مجلد»! !
وهذا الكلام مسجل عندي بصوته وصورته. فالله المستعان.
1 / 6
١ - زعمه أنه لم يقم أحد من السلف الصالح ولا من علماء المسلمين وأئمتهم بإحصاء الأسماء الحسنى لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم.
٢ - اشتراطه فحص جميع النصوص القرآنية والنبوية لإحصاء الأسماء الحسنى.
٣ - زعمه امتناع إحصاء الأسماء الحسنى بدون استخدام الحاسب الآلي.
٤ - ادعاؤه أنه أحاط علمًا بالسنة النبوية كلها.
٥ - عدم قبوله للحديث الحسن في باب إثبات الأسماء الحسنى.
٦ - رده كذلك للحديث الموقوف الذي له حكم الرفع.
٧ - زعمه أن الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة تسعة وتسعون اسمًا فقط.
٨ - إخراجه لفظ الجلالة "الله" من التسعة والتسعين اسمًا.
٩ - جزمه بأن الأسماء التي قام بإحصائها هي المعنية بحديث " إن لله تسعة وتسعين اسمًا ... ".
١٠ - تفسيره لحديث: " إن لله تسعة وتسعين اسمًا ... ". تفسيرا لم يقله أحد قبله.
١١ - وقوعه في أخطاء كثيرة نتيجة لاعتماده الكلي على الحاسب الآلي.
هذه هي أهم الأخطاء التي وقع فيها الدكتور، وسيجد القارئ أخطاء أخرى نبهت عليها في غضون هذه الرسالة ولم أستوعب كل الأخطاء الموجودة في الكتاب، ولكن ذكرت ما تيسر لي الوقوف عليه.
1 / 7
وليعلم القارئ الكريم أني لا أريد ببيان أخطاء هذا الكتاب أن أحط من قدره أو من قدر مؤلفه، بل إنما أريد الانتصار للحق بالحق، والدفاع عن السلف الصالح وعن عقيدتهم الطاهرة النقية الزكية، وتنزيهًا للكتاب عن الخطأ ما أمكن. فإن ذلك أدعى لإقبال الناس عليه واستفادتهم منه.
والله أسأل أن يجعل كتابي هذا خالصًا لوجهه الكريم. وأن يتقبله مني بقبول حسن، وأن لا يخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وكتب
محمد محب الدين أبو زيد
القاهرة: الأحد ٨ من رجب، سنة ١٤٢٨ هـ
الموافق ٢٢ يونيو ٢٠٠٧ م
* * *
1 / 8
الدفاع عن السلف الصالح
وبيان أن الإحصاء لا يتوقف
على استخدام الحاسب الآلي
ذكر الدكتور (ص: ١٤) أن ابن الوزير اليماني قال: «تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته أو توفيق رباني، وقد عدم النص المتفق على صحته في تعيينها فينبغي في تعيين ما تعين منها الرجوع إلى ما ورد في كتاب الله بنصه، أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث» اهـ.
ثم علق الدكتور قائلًا: «والرجوع إلى ما أشار إليه ابن الوزير مسألة أكبر من طاقة فرد وأوسع من دائرة مُجِدٍّ؛ لأن الشرط الأول والأساسي في إحصاء الأسماء الحسنى هو فحص جميع النصوص القرآنية وجميع ما ورد في السنة النبوية مما وصل إلينا في المكتبة الإسلامية، وهذا الأمر يتطلب استقصاءً شاملًا لكل اسم ورد في القرآن، وكذلك كل نص ثبت في السنة، ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية وقراءتها كلمة كلمة للوصول إلى اسم واحد، وهذا في العادة خارج عن قدرة البشر المحدودة وأيامهم المعدودة؛ ولذلك لم يقم أحد من أهل العلم سلفًا وخلفًا بتتبع الأسماء حصرًا منذ أكثر من ألف عام، وإنما كان كل منهم يجمع ما استطاع باجتهاده أو ما تيسر له من جمع غيره واجتهاده .... لكن الله ﷿ لَمَّا يسر الأسباب في هذا العصر أصبح
1 / 9
من الممكن إنجاز مثل هذا البحث في وقت قصير نسبيًّا، وذلك باستخدام الكمبيوتر والموسوعات الإلكترونية التي قامت على خدمة القرآن وحوت آلاف الكتب العلمية واشتملت على المراجع الأصلية للسنة النبوية وكتب التفسير والفقه ... ولم تكن هذه التقنية قد ظهرت منذ عشر سنوات تقريبًا، أو بصورة أدق لم يكن ما صدر منها كافيًا لإنجاز مثل هذا البحث ...» اهـ.
أقول:
هذا الكلام يحتوي على عدة أخطاء وبيانها كالتالي:
أولًا: زعم الدكتور أن فحص جميع النصوص القرآنية والنبوية شرط أساسي في إحصاء الأسماء الحسنى التسعة والتسعين.
وهذا كلام لا دليل عليه، ولم يشترط أحد من العلماء هذا الشرط، وكلام الإمام ابن الوزير اليماني ﵀ لا يدل عليه كما هو ظاهر. ودليل بطلان هذا الشرط: هو أنه لا يوجد أحد يستطيع فحص جميع النصوص النبوية، مهما أوتي من علم وحفظ، وتوفرت له سبل البحث بواسطة الكمبيوتر أو غيره، كما سيأتي بيانه قريبًا (١). فإذا اشترطنا هذا الشرط أدى إلى إلغاء العمل بحديث النبي ﷺ: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة» (٢). فتبين من ذلك أن هذا الشرط غير صحيح، «وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل».
_________
(١) انظر (ص: ٢٩).
(٢) أخرجه: البخاري (٣/ ٢٥٩) (٨/ ١٠٨ - ١٠٩) (٩/ ١٤٥)، ومسلم (٨/ ٦٣)، وغيرهما من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 10
وقد أدى اشتراط الدكتور لهذا الشرط إلى أن يدعي أن مسألة الإحصاء أكبر من طاقة البشر وخارجة عن قدرتهم المحدودة وأيامهم المعدودة! !
وجوابًا على ذلك أقول:
بل إن إحصاء الأسماء الحسنى التسعة والتسعين في وسع كل مؤمن، حيث إن النبي ﷺ قد رغّب المؤمنين من لدن الصحابة ﵃ إلى قيام الساعة على إحصائها، مما يدل على أن هذا الإحصاء في طاقتهم وداخل قدرتهم، وهل يرغّب النبي ﷺ في أمر خارج عن قدرة البشر؟ ! !
ولو كان هذا الإحصاء أكبر من طاقة فرد وأوسع من دائرة مُجد، ولا يستطيع أحد القيام به إلا بفرز عشرات الآلاف من الأحاديث واستخدام الحاسب الآلي كما يزعم الدكتور، لم يكن لهذا الحديث فائدة بدون الحاسب الآلي، ولقصرت فائدة هذا الحديث على هذا العصر، أو على الدكتور خاصة، وهذا ظاهر البطلان.
ثم إن أحكام الشريعة لا تتوقف على شيء من العلوم الكونية والاكتشافات العلمية، كالحاسب الآلي وغيره. فأحكام الشريعة يستوي في إمكانية معرفتها والقيام بها جمهور الناس، وهذا مقتضى شمولية دعوة الإسلام لجميع البشر.
ولا ننكر أن بعض الاكتشافات العلمية الحديثة قد تُيسِّر على بعض الناس القيام ببعض أمور الشريعة، ولكن أن نقول: إن شيئا من أمور الشريعة تتوقف معرفته على بعض الاكتشافات العلمية أو العلوم الكونية. فهذا الذي لا نقبله أبدًا.
1 / 11
قال الإمام الشاطبي في «الموافقات» (٢/ ٥٨):
«هذه الشريعة المباركة أمية (١)؛ لأن أهلها كذلك، فهو أجرى (٢) على اعتبار المصالح، ويدل على ذلك أمور:
أحدها: النصوص المتواترة اللفظ والمعنى، كقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢]، ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأعراف: ١٥٨]، وفي الحديث: «بعثت إلى أمة أمية» (٣) لأنهم لم يكن لهم علم بعلوم
_________
(١) علق فضيلة الشيخ عبدالله دراز ﵀ على هذا الموضع بقوله: «أي لا تحتاج في فهمها وتعرف أوامرها ونواهيها إلى التغلغل في العلوم الكونية والرياضيات وما إلى ذلك. والحكمة في ذلك:
أولًا: أن مَن باشر تلقيها من الرسول ﷺ أُمِّيون على الفطرة.
ثانيًا: فإنها لو لم تكن كذلك لما وسعت جمهور الخلق من عرب وغيرهم؛ فإنه كان يصعب على الجمهور الامتثال لأوامرها ونواهيها المحتاجة إلى وسائل علمية لفهمها أولًا، ثم تطبيقها ثانيًا، وكِلاهما غير ميسور لجمهور الناس المرسَل إليهم من عرب وغيرهم. وهذا كله فيما يتعلق بأحكام التكليف؛ لأنه عام يجب أن يفهمه العرب والجمهور ليمكن الامتثال. أما الأسرار والحكم والمواعظ والعبر: فمنها ما يدق عن فهم الجمهور ويتناول بعضُ الخواص منه شيئًا فشيئًا بحسب ما يسره الله لهم وما يلهمهم به ...» اهـ.
قلت: ولا يخفى عليك أيها القارئ أن إحصاء الأسماء التسعة والتسعين مندوب، والمندوب قسم من أقسام الأحكام التكليفية، فلا يتوقف القيام به على الوسائل العلمية والاكتشافات الحديثة. والله أعلم.
(٢) علق هنا الشيخ دراز ﵀ بقوله: «أي: فإن تنزيل الشريعة على مقتضى حال المنزَّل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم» اهـ ..
(٣) أخرجه: أحمد (٥/ ١٣٢)، والترمذي (٢٩٤٤)، وابن حبان (٧٣٩)، والطيالسي (٥٤٥)، من حديث أُبيّ بن كعب ﵁.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد رُوي من غير وجه عن أُبي بن كعب» اهـ.
1 / 12
الأقدمين، والأمي منسوب إلى الأم، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابًا ولا غيره، فهو على أصل خلقته التي ولد عليها، وفي الحديث: «نحن أمة أمية، لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا» (١). وقد فسر معنى الأمية في الحديث، أي: ليس لنا علم بالحساب ولا الكتاب. ونحوه قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ﴾ [العنكبوت: ٤٨]. وما أشبه هذا من الأدلة المبثوثة في الكتاب والسنة، الدالة على أن الشريعة موضوعة على وصف الأمية؛ لأن أهلها كذلك ...) اهـ.
وقال الإمام الشاطبي ﵀ أيضًا في «الموافقات» (٢/ ٦٦، ٧٤ - ٧٦): «ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها - وهم العرب - ينبني عليه قواعد: ... ومنها: أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها ليسعه الدخول تحت حكمها.
أما الاعتقادية: بأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور، من كان منهم ثاقب الفهم أو بليدًا؛ فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أمية، وقد ثبت كونها كذلك، فلابد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها
_________
(١) أخرجه: البخاري (٣/ ٣٥)، ومسلم (٣/ ١٢٣ - ١٢٤)، وغيرهما من حديث ابن عُمَر ﵄.
1 / 13
سهلة المأخذ.
وأيضًا فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول ...
وأما العمليات: فمن مراعاة الأمية فيها أن وقع تكليفهم بالجلائل في الأعمال والتقريبات (١) في الأمور، بحيث يدركها الجمهور، كما عرف أوقات الصلوات بالأمور المشاهدة لهم، كتعريفها بالظلال، وطلوع الفجر، والشمس وغروبها، وغروب الشفق، وكذلك الصوم ... ولم يطالبنا بحساب مسير الشمس مع القمر بالمنازل؛ لأن ذلك لم يكن من معهود العرب ولا من علومها، ولدقة الأمر فيه، وصعوبة الطريق إليه. وأجرى لنا غلبة الظن في الأحكام مجرى اليقين وعذر الجاهل فرفع عنه الإثم، وعفا عن الخطأ، إلى غير ذلك من الأمور المشتركة للجمهور، فلا يصح الخروج عما حد في الشريعة، ولا تطلب ما وراء هذه الغاية؛ فإنها مظنة الضلال، ومزلة الأقدام» اهـ.
قلت: وكلام هذا الإمام يدل دلالة واضحة على أن الشريعة لا تتوقف معرفتها على شيء من العلوم الطبيعية والاكتشافات العِلميَّة الحديثة، فما ذهب إليه الدكتور من تعذر إحصاء الأسماء التسعة والتسعين بدون وجود الحاسب الآلي باطل، اعتمادًا على الأدلة التي ساقها الإمام الشاطبي ﵀.
_________
(١) علق الشيخ دراز على هذا الموضع بقوله: «لعل الأصل "بالتقريبات"، أي: فلم يُكلفوا بما يقتضي الضبط التام للأوقات، بل بأمور وعلامات تقريبية، مع أنها جُعلَتْ أمارات لجلائلِ الأعمال كالصلاة والصوم والحج» اهـ.
1 / 14
ثانيًا: زعم الدكتور أنه لم يقم أحد من أهل العلم سلفًا وخلفًا بتتبع الأسماء حصرًا منذ أكثر من ألف عام لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم! !
أقول:
هل تظن يا فضيلة الدكتور أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من أهل القرون الثلاثة الأولى المفضلة لم يستطيعوا إحصاء الأسماء التسعة والتسعين لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم؟ !
وهل نفهم من ذلك أن الله ﷿ قد حرم السلف الصالح وعلى رأسهم الصحابة ﵃ من هذه الفضيلة وخصك بها يا فضيلة الدكتور؟ !
يجب علينا أن نعلم أن السلف الصالح ﵃ قد شهد لهم النبي ﷺ بالخيرية في قوله ﷺ: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (١). فهم خير الناس علمًا وعملًا. وكل فضيلة في علم أو عمل، وكل جزء من الدين صغير أو كبير فإنهم قد سبقونا إلى معرفته والعمل به.
فلا شك أنهم قد قاموا بإحصاء الأسماء التسعة والتسعين؛ لأنه جزء من الدين وفضيلة في العلم والعمل، وليس عدم نقل ذلك إلينا دليلًا على عدم وقوعه. والله أعلم.
_________
(١) أخرجه: البخاري (٣/ ٢٢٤) (٥/ ٣) (٨/ ١١٣، ١٦٧)، ومسلم (٧/ ١٨٤، ١٨٥)، وغيرهم من حديث ابن مسعود ﵁.
1 / 15
قال الإمام ابن القيم ﵀ في «أعلام الموقعين» (٤/ ٧٧ - ٧٨): «ثبت عن النبي ﷺ في «الصحيح» من وجوه متعددة أنه قال: «خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
فأخبر النبي ﷺ أن خير القرون قرنه مطلقًا، وذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، وإلا لو كانوا خيرًا من بعض الوجوه، فلا يكونون خير القرون مطلقًا، فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب، وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطئوا هم - لزم أن يكون ذلك القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن ... ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان الله! أي وصمة أعظم من أن يكون الصِّدِّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم ﵃ قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في ذلك، ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى نبغ من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة، وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة؟ ! سبحانك هذا بهتان عظيم» اهـ.
قلت: رحم الله الإمام ابن القيم فكأنه يتكلم في مسألتنا هذه، ولا أظن الدكتور يدعي أن قرنه الذي استطاع فيه إحصاء الأسماء التسعة والتسعين بواسطة الحاسب الآلي أفضل من القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية! !
1 / 16
ويقول الإمام الشاطبي ﵀ في «الموافقات» (١/ ٧٤ - ٧٦) في معرض بيانه لطرق أخذ العلم عن أهله:
«... أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر:
أما التجربة: فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم. وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سِيَرهم وأقوالهم وحكاياتهم أبصر العجب في هذا المعنى.
وأما الخبر: ففي الحديث: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» (١). وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك.
وروي عن النبي ﷺ: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض» (٢). ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئًا بعد شيء، ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق. وعن ابن مسعود أنه قال: «ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب
_________
(١) متفق عليه. وقد سبق تخريجه قريبًا، ولكن بلفظ: «خير الناس قرني».
(٢) أخرجه: أحمد (٤/ ٢٧٣)، والطيالسي (٤٣٩) بمعناه من حديث حذيفة ﵁.
انظر «الصحيحة» (رقم: ٥).
1 / 17
خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم». ومعناه موجود في «الصحيح» في قوله: «ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يُستفتَون فيُفتُون برأيهم، فيضلون ويضلون» (١) ....
والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا، وأعظم ذلك العلم، فهو إذا فى نقص بلا شك. فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصًا علم الشريعة، الذي هو العروة الوثقى، والوَزَر (٢) الأحمى. وبالله تعالى التوفيق» اهـ.
أقول: فالسلف الصالح هم سادات هذه الأمة علمًا وعملًا، فمن ادعى أنه علم شيئًا من الدين لم يعلموه فهو كاذب؛ إذ الدين هو ما جاء عنهم ﵃، فما لم يعلموه فليس هو من الدين قولًا واحدًا. وإذا انفرد أحد المتأخرين بقول ولم يسبقه إليه أحد من السلف الصالح فلا بد أن يكون خطأ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ في «مجموع الفتاوى» (٢١/ ٢٩١): «وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين، ولم يسبقه إليه أحد منهم، فإنه يكون خطأ، كمال قال الإمام أحمد بن حنبل: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام» اهـ.
_________
(١) أخرجه: البخاري (١/ ٣٦) (٩/ ١٢٣)، ومسلم (٨/ ٦٠)، وغيرهما من حديث عبدالله بن عمرو ﵄.
(٢) الوَزَر: الملجأ أو الجبل. كما في «لسان العرب (٦/ ٤٨٢٣).
1 / 18
وقال الإمام الشاطبي في «الموافقات» (٣/ ٥٦):
«فالحذر الحذر من مخالفة الأولين. فلو كان ثَمَّ فضل ما، لكان الأولون أحق به. والله المستعان» اهـ.
فيجب علينا - وعلى الدكتور كذلك - أن نتواضع لعلم السلف الصالح وأن نقر لهم بالسبق في كل باب من أبواب الدين.
كان الإمام أبو عمرو بن العلاء يقول: «ما نحن فيمن مضى إلا كبَقْل (١) في أصول نخلٍ طُوال» (٢).
وأبو عمرو هذا تابعي ثقة جليل أحد الأئمة القراء السبعة، وهو يقول هذا في مشايخه من الصحابة والتابعين، فماذا نقول نحن؟ ! هل نقول: إنهم رجال ونحن رجال؟ ! أم نقول: إنهم لم يستطيعوا إحصاء الأسماء التسعة والتسعين لعدم توفر الحاسب الآلي لديهم؟ !
كلا والله، بل نقول كما قال الإمام أبو عمرو بن العلاء نقول: «ما نحن فيمن مضى إلا كقطرة في بحر خضم».
قال الإمام الشافعي في «الرسالة البغدادية» (٣):
«وقد أثنى الله ﵎ على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل
_________
(١) البقل: نبات عشبي يغتذي الإنسان منه مثل الفجل والجرجير.
(٢) كما في ترجمته من «تاريخ دمشق» (٦٧/ ١١٣).
(٣) كما في «أعلام الموقعين» (١/ ٧٩)، وانظر كلام الإمام ابن القيم بعده فإنه مهم.
1 / 19
ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين، أدوا إلينا سنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحي ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول الله ﷺ عامًّا وخاصًّا وعَزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا ...» اهـ.
وقد رد الإمام ابن رجب الحنلبي في «فضل علم السلف على الخلف» (ضمن مجموع رسائل ابن رجب: ٣/ ٢٢ - ٢٤) على من ظن في شخص من المتأخرين أنه أعلم من السلف الصالح بكلام قوي رأيت نقله هنا لنفاسته، قال ﵀:
«وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين أنه أعلم ممن تقدم، فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم؛ لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول: هو أعلم من الفقهاء المشهورين المتبوعين، وهذا يلزم منه ما قبله؛ لأن هؤلاء الفقهاء المشهورين المتبوعين أكثر قولًا ممن كان قبلهم، فإذا كان من بعدهم أعلم منهم لاتساع قوله، كان أعلم ممن كان أقل منهم قولًا بطريق الأولى كالثوري والأوزاعي والليث وابن المبارك وطبقتهم، وممن قبلهم من التابعين والصحابة أيضًا؛ فإن هؤلاء كلهم أقل كلامًا ممن جاء بعدهم.
وهذا تنقص عظيم بالسلف الصالح، وإساءة ظن بهم، ونسبة لهم إلى
1 / 20