ومع الفتوحات البابلية والآشورية لبلاد شرقي المتوسط، رحلت الزهرة مع الرافدين تفرض عبادتها على القلوب. ففي كنعان حطت رحالها باسم «عنات» - باللسان الكنعاني - أو «إناث» بمعنى الأنوثة وما ينطوي عليه. وفي فينيقيا شمالا ظلت باسمها الآشوري «إستار». ومن هناك عبرت البحر مع التجارة الفينيقية إلى اليونان، حيث أصبحت هناك «أثينا» أو «أفروديت»، بل إنها وصلت روما لتعبد هناك تحت الاسم «فينوس».
22
وقد كان الفضل في انتشارها بالقارة الأوروبية إنما يعود في المقام الأول إلى أهل الساحل اللبناني الفينيقيين، الذين تمكنوا من السيطرة على البحر، كما كانوا شعبا تجاريا من الطراز الأول، حتى إن تمكنهم البحري والتجاري لا يزال يعد أعجوبة ومثلا تاريخيا نادرا، ولم يقتصر توسعها على الغرب فقط، وإنما اتجهت أيضا نحو الشرق، حيث عيلام (إيران القديمة) لتعرف هناك باسم «سيدة عيلام» التي تسكن سوسة «عاصمة عيلام».
23
ولم يسلم من فتنتها أي من شعوب المنطقة، حتى من ينعتهم المؤرخون بالموحدين، أقصد الشعب العبري أو اليهودي، قد وقعوا في فتنة الزهرة فعبدوها ومارسوا طقوسها الرافدية نفسها.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام الإشارة إلى أن عبادة الزهرة اشتملت على طقوس متعددة، أبرزها طقس موسمي للبكاء على الإله «تموز » التعس والنواح عليه لميتته في العالم السفلي بعد أن أسلمته «عشتار» للزبانية بديلا عنها، وهذا الطقس بالذات يرويه لنا النبي «حزقيال» في سفره بالكتاب المقدس، حيث يقول: إنه قد شاهد من بين اليهود عند «... مدخل بيت الرب ... نسوة جالسات يبكين على تموز ... وإذا عند باب الهيكل بين الرواق والمذابح، نحو خمسة وعشرين رجلا، ظهورهم نحو الهيكل ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون ...»
24
كما أن سفر نشيد الإنشاد المنسوب للنبي «سليمان»، لا يتسم بأية صفة دينية، ولا يمت للمعتقدات العبرية بصلة، كما لا تنسجم محتوياته أصلا مع طبيعة الكتاب المقدس، فهو أناشيد غزلية مكشوفة تماما تنضح بالتعابير الجنسية، تدور كحوار بين عشيق وعشيقته، يصف فيها العاشق مفاتن عشيقته واقتدارها الجنسي. وهو بالمقارنة مع طقس عشتار «الزهرة الرافدية» المسمى ب «الزواج المقدس» بين الكاهنة الكبرى للبغايا المقدسات، وبين الملك الذي كان يعد كبيرا للكهنة في الوقت نفسه، لتحريض القوى الإخصابية على العطاء، نجد نشيد الإنشاد يكاد يكون نسخة منقولة، وخاصة أن الفتى العاشق في الأناشيد ينعت بكلمتي: ملك راع، وهما من نعوت «تموز» في الرواية الرافدية، والفتاة في الأناشيد توصف مرة بأنها زوجة ومرة بكونها أختا، وهما صفتا الزهرة في أساطيرها الرافدية، ومن هذه الغزليات العبرية السليمانية نقتطع بعض المقاطع مثل:
ليقبلني بقبلات فمه؛ لأن حبك أطيب من الخمر ...
في الليل، على فراشي، طلبت من تحبه نفسي ...
Halaman tidak diketahui