Urjanun Jadid
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
Genre-genre
79
عن مد نطاق الفلسفة الطبيعية لتستوعب داخلها العلوم الجزئية، ورد العلوم الجزئية إلى الفلسفة الطبيعية، بحيث لا تنبت أفرع المعرفة عن الجذع، فبغير هذا لا نتوقع أي تقدم يذكر. ••• (108) هكذا تكون الملاحظات التي نريدها، من أجل أن نمحو اليأس ونحيي الأمل بالتخلي عن أخطاء الماضي أو تصحيحها، والآن علينا أن ننظر إن كان ثمة أي دواع أخرى للأمل، وسرعان ما يخطر لنا هذا الخاطر: إذا كانت هناك اكتشافات كثيرة نافعة قد وقعت لبني الإنسان من طريق المصادفة أو الظروف، وبدون دراسة أو انتباه من جانبهم، فلا بد بالضرورة أن نسلم بأن اكتشافات أكثر بكثير قمينة بأن تظهر إلى النور من طريق البحث والانتباه إذا ما تما باطراد ونظام، وليس بتسرع وتقطع، فرغم أنه يحدث بين الحين والحين أن يقع شخص بالمصادفة على شيء ما سبق أن تمنع على جهوده الكبيرة وتحقيقاته المضيئة، إلا أن الحال بغير شك هو العكس بصفة عامة؛ ولذا فإن لنا أن نأمل من العقل الإنساني والكد والمنهج والتطبيق أكثر مما نأمله من الصدقة والغريزة الحيوانية الصرف وما شابه ذلك، والتي كانت هي مصدر الاكتشاف حتى هذه اللحظة. ••• (109) وسبب آخر من أسباب الأمل: أن بعض الاكتشافات التي تمت فيما مضى لم تكن لتخطر على بال أحد، بل كان أي شخص حقيقا بأن يرفضها - ببساطة - كشيء مستحيل؛ ذلك أن الناس قد اعتادت أن تستشف ما هو جديد من خلال مثال مما هو قديم، وبخيال مسكون بالقديم ومصطبغ به، وتلك طريق مغالطة للغاية في تكوين التصورات، فالتيارات المستمدة من منابع الطبيعة لا تتخذ دائما المجرى القديم.
فلو أن واحدا قبل اختراع المدفع وصف هذا الشيء بتأثيراته، وقال مثلا: إن ثمة اكتشافا جديدا يمكن بواسطته زعزعة أقوى الحصون والأسوار وتدميرها من مسافة بعيدة، من المؤكد أن الناس عندئذ ستشرع في التفكير في طرائق زيادة قوة المنجنيق ومعدات الحصار بواسطة الأثقال والعجلات وما شابه من آليات الرجم والقذف، أما فكرة ريح نارية تتمدد فجأة وبعنف وتنفجر، تلك فكرة ما كانت لترد في تصور أحد أو خياله؛ ذلك أنه لم يشهد بنفسه شيئا شبيها بذلك في حياته، ربما باستثناء زلزال أو صاعقة، وهي أشياء قمينة بأن يستبعدها الناس على الفور باعتبارها خوارق أو غرائب الطبيعة التي لا يمكن أن يحاكيها البشر.
وبنفس الطريقة فإنه لو قال أحد قبل اكتشاف الحرير إن هناك صنفا اكتشف من الخيط لغرض اللبس والأثاث أرقى من الكتان أو الصوف، وفي الوقت نفسه يفوقها في القوة وأيضا في الجمال والنعومة، عندئذ سيشرع الناس في التفكير في نبات ناعم ما أو في الشعر الأنعم لحيوان معين أو في ريش أو زغب طائر، أما أن تكون خيوط دودة صغيرة، دودة وفيرة الإنتاج تجدد نفسها كل عام؛ فهذا ما لم يكن يخطر ببال أحد، بل إذا قال أحد ذلك عن إحدى الديدان لأثار السخرية منه على أنه يتوهم نوعا جديدا من نسيج العنكبوت.
كذلك لو أن أحدا - قبل اكتشاف البوصلة البحرية - أشار إلى أن أداة قد اكتشفت يمكن بها أخذ اتجاهات ونقاط السماء وتمييزها بدقة، فسوف يأخذ الناس في التخمين في الأمر والحديث عن تطوير أدوات فلكية أكثر دقة وما إلى ذلك، أما فكرة أن يكتشف أي شيء يتفق في حركته تماما مع الأجرام السماوية وليس هو نفسه جرما سماويا بل مجرد حجر أو مادة معدنية، فذاك شيء سيبدو بعيدا تماما عن التصديق، غير أن هذا وأمثاله من الأشياء قد ظل خفيا على البشر عصورا طويلة، ولم تكتشفها الفلسفة ولا الفنون الميكانيكية، بل اكتشفت بالحظ والصدفة؛ ذلك أنها حقا (كما قلنا آنفا) من نوع مختلف تماما وبعيد كل البعد عن أي شيء معروف من قبل، فلم يكن لأي تصور سابق على الإطلاق أن يقود إليه.
ومن ثم فإن لنا أن نأمل في أن الكثير من الأشياء الرائعة والمفيدة ما زالت مذخورة في حشا الطبيعة، بعيدة الشبه جدا عن الأشياء التي تم اكتشافها، وبعيدة جدا عن منال تخيلنا، وما زالت غير مكتشفة، ولكنها بغير شك سوف تظهر إلى النور في وقت ما خلال انعطافات القرون وتحولاتها، تماما مثلما ظهر غيرها، ولكن ليس بغير المنهج الذي نعالجه الآن يمكنها أن تظهر وتستبق بسرعة وفورية وتزامن.
80 ••• (110) ولكن هناك صنفا آخر من الاكتشافات يبرهن على أنه قد تكون هناك كشوف قابعة تحت أقدامنا، ومع ذلك يعبرها البشر دون أن يلحظوها، فإذا كان اكتشاف البارود والحرير والمغناطيس والسكر والورق وما إليها يعتمد على خصائص معينة للأشياء ذاتها وللطبيعة، فليس ثمة في تقنية الطباعة أي شيء غير ظاهر وغير مكشوف، إلا أن البشر - لغفلتهم - سلخوا أحقابا طويلة بدون هذا الاكتشاف الجميل الذي قدم خدمة جليلة في تقدم المعرفة؛ ذلك أنهم - لغفلتهم - لم يلاحظوا أنه رغم أن صف أحرف الطباعة أصعب من كتابة الأحرف بحركة اليد إلا أن أحرف الطباعة ما إن يتم صفها حتى تمكننا من أخذ ما لا يحصى من الطبعات، في حين لا تسمح الأحرف المكتوبة باليد إلا بنسخة واحدة، وأنهم - لغفلتهم - لم يلاحظوا أن الحبر يمكن أن يكثف بحيث يسم
81
من غير جري، وبخاصة إذا كانت الأحرف متجهة إلى أعلى وفعل الطبع يجرى من أعلى.
وهكذا هو حال العقل البشري في سيرة الكشف، لقد مرن في أغلب الأحيان على التعثر والخرق، فهو في البداية غير واثق من نفسه، ثم محتقر لها بعد ذلك. في البداية يبدو له هذا الاكتشاف أو ذاك بعيدا عن التصديق، وبعد أن يتحقق الاكتشاف تبدو له غفلته نفسها بعيدا عن التصديق، إذ كيف تفوت البشر هذه الملاحظة كل هذا الزمن؟! وهذا نفسه قد يكون من دواعي الأمل، بمعنى أن هناك حشدا هائلا من الكشوف تنتظرنا، نستنبطها ونخرجها إلى النور بمساعدة الخبرة الكتابية (المتعلمة) التي تحدثت عنها، ليس فقط باكتشاف طرائق غير معروفة، بل أيضا بنقل الطرائق المعروفة ومضاهاتها وتطبيقها. ••• (111) ثمة سبب آخر للأمل ينبغي ألا نغفله، فكر مجرد تفكير في الإنفاق الهائل، من الوقت والثروة والموهبة، الذي ينفقه البشر في أشياء وفي مساع أقل فائدة وقيمة بكثير، فلو أن جزءا يسيرا منه وجه إلى موضوعات جادة قويمة؛ لأمكن التغلب على كل صعوبة، ولقد أصبت إذ أضفت هذه الملاحظة؛ لأني أعترف - بصدق - أن مجموعة من التاريخ الطبيعي والتجريبي - مثلما تقصيتها في عقلي وكما ينبغي لها - هي عمل عظيم، وعمل ملكي إن شئت، وعمل يتطلب جهدا وتكلفة كبيرين. ••• (112) في الوقت نفسه، لا ينبغي لأحد أن ينزعج من كثرة الجزئيات، فهذه الحقيقة نفسها أدعى إلى الأمل، إذ إن الظواهر الجزئية للفنون والطبيعة ما هي إلا حفنة إذا قورنت بترهات العقل عندما تنبت عن الواقع وتفقد الصلة ببينة الأشياء، وإن نهاية هذا المنهج الذي أدعو إليه واضحة وقريبة نوعا ما، أما الطريق الآخر فلا آخر له، بل هو متاهة لا نهائية؛ ذلك أن الناس حتى الآن لم تعكف على الخبرة إلا قليلا ولم تمسها إلا مسا عابرا، بينما ضيعوا وقتا هائلا في التفكر النظري وفي التهاويم الذهنية، فإذا تسنى لأي أحد من بيننا أن يجيب حقا عن تساؤلاتنا عن وقائع الطبيعة، فإن اكتشاف جميع العلل وجميع العلوم لن يستغرق إلا بضعة أعوام. ••• (113) أظن أيضا أن الناس يمكن أن تستمد بعض الأمل من خلال النموذج الذي أمثله أنا شخصيا، ولست أقول هذا من باب التفاخر بل لأن من المفيد أن أقوله، فلينظر إلي من يقنطون ولا يثقون في قدراتهم: هاكم رجل هو الأكثر انشغالا بين مجايليه بشئون الدولة، رجل ليس في تمام الصحة (ومن شأن ذلك إضاعة الكثير من الوقت)، ومستكشف أول يرود وحده هذا الطريق، لا يقتفي خطى أحد ولا يشاور في أفكاره أحدا، ولكن بمجرد أن وضعت قدمي بثبات على الطريق الصحيح مسلما عقلي للطبيعة، فإنني أجرؤ على القول بأني حققت للمسألة التي أعالجها دفعة ما إلى الأمام، فما بالكم بما يمكن أن يتوقع (بعد أن تبين الطريق على هذا النحو) من أناس لديهم وفرة من الوقت، ومن جهود متآزرة، ومن توالي العصور، على طريق غير مقصور على عابر واحد في الوقت الواحد (مثلما هو شأن التأمل العقلي)، بل طريق يمكن فيه لأعمال الناس وجهودهم (وبخاصة في جمع الخبرة) أن تتوزع على أفضل نحو ثم تتحد، فلن يدرك الناس قوتهم إلا عندما لا تعود الأعداد الكبيرة تقوم كلها بنفس الشيء، بل يتولى كل واحد شيئا واحدا ويقدم إسهاما مختلفا عن الآخر.
Halaman tidak diketahui